كنيسة مار جرجس - إدّه جبيل

 

إدّه الجُبيلية ( تَمييزاً لها عن إدّه البترون) هي إحدى قرى لبنان القائمة في أحضان الطبيعة، تعلو عن سطح البحر في مستواها الأول 200 متر، ثم ترتفع تدريجياً لتَصِل في حدّها الأقصى الى علوّ ٍ يبلغ حوالي 400 متر. وهي تنبسط على قمة رابيةٍ واسعة الى الجهة الشرقية الشمالية من مدينة جبيل، وتَحدُّها شرقاً قرى كفرمسحون وبنتاعل وكفرحتّى، وشمالاً نهر عين الجديدة الذي ينحدر في مجرى يمرُّ بين عمشيت وغرفين، كما تَحدُّها من جهتها الجنوبية قرية حبوب، ومن الغرب مدينة جبيل والبحر. وهي تبعد عن العاصمة بيروت مسافة 41 كيلومتراً، والوصول اليها يتمُّ رأساً من جبيل.

 

بالنسبة الى اسمها فإنّ جَذر "إدّه" هو ساميٌّ مُشترك يعني القوة والمِنعة، وقد وردت في التوراة كلمة IDDO  بمعنى القويّ الشديد، وهذا ما يَجعلنا نَعتقد أنّه يُراد به أنّها قوية، شديدة ومنيعة كما يقول الدكتور أنيس فريحة في "مُعجم أسماء المدن والقرى اللبنانية". كذلك يُحتمل ان يكون الاسم تحريفاً لـ IDO  و IDA اللّتين تعنيان "أيد" حسب قول الباحث ايليّا عيسى في "قاموس الألفاظ السريانية في العامية اللبنانية".

 

وهناك حقيقة أخرى هي أن إدّه هي مسقط رأس عائلة تَحمِل هذا الاسم ورُبما تكون القرية قد استعارته منها اسماً لها. والمؤرّخون يقولون عن هذه العائلة ان نَسبها يعود الى يونان اليانوحي الذي جاء من اليَمن وأقام أولاً في مدينة أذرع في حوران ثم انتقل إلى العاقورة، وبعدها نَزحَ إلى يانوح قبل أن ينتقل منها إلى إدّه التي ارتبطت عائلته بها وقد اتّخذتها موطناً نهائيًّا لها. وهذه العائلة نَمَت وأحرزت مكانةً وقيمة في عهد الإمارتين المَعنية والشِهابية.. إلى أن أعطت لبنان في عصرنا الحاضر رئيس جمهورية هو إميل إدّه.

 

وتاريخ إدّه مُرتبط بتاريخ مدينة جبيل، إذ بدأ مع تاريخ بيبلوس الفينيقية لأنها كانت في أول عهدها حيًّا من أحياء هذه المدينة أو امتدادًا لها، لأنها كانت مركز عبادة لأهلها. وضمن نطاقها توجد آثار كثيرة من فينيقية ورومانية وبيزنطية وصليبية. ومَعابدها الوثنية التي تَعود الى العهدين الفينيقي والروماني تحوَّلت بعد انتشار الديانة المَسيحية الى كنائس.. من بقاياها أعمدة ضَخمة مُمدَّدة على الأرض أو تكسَّرت قِطَعاً، إذ تقوَّضت مبانيها مع الزمن. كما توجد تيجان أعمدة منقوشة في الصخور، وبقايا خرائب لا نزال نرى منها حِجارتها الضَخمة المُبعثرة هنا وهناك، مع صُلبانٍ تعود الى العهود المسيحية. والآثار المسيحية هي كنائس مار جِرحِس، ومار يوحنّا وتادروس، ومار إليشاع، وسيّدة دوقا، إلى جانب معابد في ضواحي القرية.

 

من هذه الكنائس الأربع نَتَوقَّف عند كنيسة مار جِرحِس، وهي اليوم الكنيسة الرعائية للقرية، مُستندين إلى ما كتبه عنها الدكتور كريستيان الخوري في الجزء السابع من سلسلته "العذراء مريم في لبنان"، فنقول إنّ حجارة هذه الكنيسة تدلُّ على أنّها تعود إلى العهد الفينيقي لأنّها مبنية بعقد قَصَبة مُرتفعة. وقد أشار إرنست رينان إلى وجود أعمِدة أثرية استُعملت في مداميك البناء. وتَنتَشِر حول الكنيسة كمية من الأعمدة والحِجارة تؤكد قِدَمها وتُثبت أنّها كانت في الأصل مَعبداً وثنياً.

 

وينقل الدكتور خوري عن المؤرِّخ الأب لامنس قوله إنّ إرنست رينان انتزع عَتبة الكنيسة وأرسلها الى متحف اللوفر في باريس، وهي تَحمِل نقشاً من الرموز التي كانت شائعةً في الدين الفينيقي والّذي يُمثّل كُرةً تلتفُّ حولها حيّاتٌ مُجتمعة الأذناب في أعلاها.

 

وقد رُمِّمت هذه الكنيسة عدَّة مرّات، وكُرِّست عام 1870 على يد المطران يوسف المريض، وصورة مار جِرجِس فيها هي بريشة المُستشرق البولونيّ بول شلافاك .

 

أمّا الباحث Levon Nordiguian   فيروي  في كتابه  Chateaux et Eglises du Moyen Age       ويقول إنّ كنيسة مار جِرحِس في قرية إدّه بُنيت على وجه التأكيد في العصور القديمة على موقعٍ اقتُلعت منه حجارتها. وبالفعل فإنّ هذه الكنيسة مبنية في أجزائها الأساسية بكتلٍ ضخمة من حجارة تلك العصور نلاحظ فيها بقايا أفاريز وقوائم ناتئة عائدة للأبواب. وإرنست رينان جَلَب معه إلى مَتحف اللوفر في باريس الكِتلة الحَجرية التي كانت بمثابة ساكفٍ للباب الغربي. وهذه القطعة كانت مزدانةً بأسطوانةٍ مجنَّحة يمكن لنا أن نَنسِبها إلى العهد الهللينيستي وفي أعلاها نقش هو عبارة عن مدوَّنة مسيحية. وقد جرت حَفريات في جنوب الكنيسة يُبدي ظاهرها على أنّها كشفت عن مُستوى زمنيّ سابق للبيزنطيين.

 

وتقول الباحثة ندى حلو في كتابها “La Fresque – I”، إنّ كنيسة مار جِرحِس- إدّه هي من ضمن قلة من الكنائس التي لا تزال قائمة  بصورةٍ  جيدة. ونرى في جدرانها قطعاً حجرية عائدة إلى العهد الروماني، تَدلّ على أن في هذا المكان أو في جواره يقوم معبد روماني ، وفي داخلها عقد طويل بالإضافة إلى بقايا رسوم بقيت ظاهرة على الجدران.

 

والمهندس المِعماري نبيل نجم يقول، في كتابه "فنّ عمارة الكنائس المارونية في لبنان"، مُتحدثاً عن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إن كنيسة مار جريُس – إدّه في منطقة جبيل هي من الخارج ضخمة ومُستطيلة الشكل وليس فيها ما يُبهج النظر، ويبلغ طولها حوالي 17 متراً وعرضها 8,7 أمتار. وحِجارة بنائها ليس فيها أيُّ انتظام ٍ في قياساتها ولا في إرسائها. وعلى واجهتها الشمالية نُلاحظ بسهولة غياب التَنَاسُب بين حِجارتها. وهذه الواجِهة نفسها تَتضَمَّن في ناحيتها الغربية مُعارضات (boutisses) لأعمدة من الغرانيت يبلغ قطر الواحد منها 60 سنتيمتراً، وكذلك قِطعة من رافدة او من إفريز، وكلها لدعم الجزء الأدنى من الجدار. وهذا النوع من الدَعِم، الذي هو اصلاً طريقة  بناء بيزنطية استعملها أيضًا الفرانك والصليبيون، يَدلُّ على أنّ الكنيسة قد تكون بُنيت في زمنين أو جرى توسيعها لاحقاً. وعندما نَنظُر الى الجزء الشرقي من الجدار المصنوع من حجارةٍ طبيعية من نفس حجم تلك الحجارة المُستعملة مع المَرامي، وذلك في مستواه الأعلى، نَستنتِج أن الجزء الغربي من الكنيسة بُني قبل ذاك. ويُمكن أيضاً أن يكون الجزء الشرقي قد رُمِّم خلال القرنين الاخيرين. وهذا يُفسّر كون المَرامي التي تُصنع عادةً للدفاع غير مَوجودة في الجزء الغربي، وكذلك الابواب والنوافذ ذات الأقواس الدائرية التي كانت ميزةً مِعمارية لبنانية منذ القرن السابع عشر. وباب المدخل الغربي هو أيضاً مُختلف عن الفَتحتِين الشماليتين. وإذن فانه من المُمكن جداً أن تكون الكنيسة قد بُنيت في زمنين اثنين لا في زمنٍ واحد، او إنّ جزءها الشرقيّ جَرى ترميمه لاحقاً. وكذلك نُلاحِظ أنّ النافذة الشمالية مَحمِية بشبكة حديدية، وهو تقليد مُستعمل منذ القرن الثامن عشر.

 

أمّا الواجهة الغربية ففيها الباب الرئيسيّ ذات الشكل المُستطيل، وهو مُحاط بإطارٍ من الحِجارة بعضها من كتلةٍ واحدة. وهذه الواجهة يبلغ قياسها مترين وثلاثين سنتمترًا طولاً ومترًا وعشرين سنتمترًا عرضاً، وفي أعلاها فتحة مُستطيلة الشكل. وتتعدّى حدَّ هذه الواجهة بعض الحجارة الضخمة والمعارضات، وهي، فضلاً عن ذلك، مَعدومَة النوافذ.

 

وهناك قبَّة جرس ٍ تَعلوها، وقد بُنيت في ما بعد، ومؤلفة من حائطين صغيرين يمتدّان أفقيًّا وحِجارتهما باقية على طبيعتها وتُشكّل في جزئها الغربيّ قوساً، هي عبارة عن عقدٍ كامل، وتأتي قِبَّة صغيرة وصليب ليُشكّلا غطاءً لكل ذلك.

 

والواجهة الجنوبية تَتَضمَّن باباً مُستطيلاً ونافذةً بالشكل نفسه.. خلافاً لما هي عليه الواجهة الشمالية. كما تبدو بعض المرامي على المُستوى الأعلى من الحائط. وقبل الوصول الى هذه الواجهة نُصادِف أنقاضاً مؤلَّفة حاليّاً من مَسلك مُبلَّط بحِجارةٍ ضَخمة، ومن بعض بقايا أعمدة لا تيجان لها، ومَسلك قائم على مُستوىً أعلى يُماشي الطريق ومَصنوع من حِجارةٍ طبيعية.

 

ومن الواضح أن هذه الكنيسة العائدة الى العصر الوسيط، قد بُنيت فوق بقايا أثرٍ من العهود القديمة. وبالمقارنة ما بين مُعارضات الحائطين الشمالي والغربي وبين بقية الأنقاض، نُلاحظ إنها كُلَّها مُستخرجَة من مكانٍ واحد.

 

الباب الجنوبيّ، المَذكور أدناه، نُشرِف منه على الأنقاض، وهو مُقفَل بزجاج نافذة. وحسب المسؤولين عن هذا الإرث، فإنه رُمِّم منذ مُدةٍ قريبة، وهو بقياس 230 x 140 سنتيمتراً ويُماثل الباب الغربيّ. وفوق هذا الباب توجد آثار للسِلُّم المؤدي الى السقف والذي ينتهي في الوسط عند ساكفه الحَجر، وهو أمر عجيب لا نَجِده في أيّ موضعٍ آخر، مِمّا يَدفَع الى الاعتقاد بأنّ ترميم هذا الباب وتغيير موضعه قد جرى تنفيذهما في وقتٍ واحد. أمّا الواجِهة الشرقية فهي، كالواجِهة الغربية، مَعدومة النوافذ.

 

والكنيسة من الداخل مؤلفة من قلبٍ واحد ذات قبَّةٍ مَعقودة على شكل قنطرة نصف أسطوانية مُتكسّرة. والجِدران مَصقولة. وهناك بَعض القِطع الباقية فوق الباب الشماليّ المُطيَّن. كذلك توجد على الجدران بعض اللَطَخات التي هي بقايا رسوم ٍ مَمحوَّة. والساكف العائد الى العهود القديمة، والمَنقوشَة عليه أطواق وحَيّات، إنتُشل من بين الأنقاض ليُضاف الى الباب الرئيسيّ الغربي، وقد بيع للفرنسيين.  وباب المَدخل لا سطح له، ولا نوافذ من الجِهتين كما في الكنائس الرهبانية العائدة للقرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبالمُقابل فإن الفتحة الكائنة فوق الباب موجودة، ولكنها مُستطيلة وبسيطة وغير مزدانة بشيء ولا بزوائد زخرفية.  والجِدران الجانبية الشبيهة بتلك التي إلى الجهتين الغربية والشرقية، مَصقولة باستثناء قطعةٍ منها كائنة فوق الباب القديم. وهناك نافذة مُستطيلة الشكل، ذات علّو ٍ يبلغ 190 سنتيمتراً ومقَّوسة على مساحة لا فتحات فيها، تَنفرِج عن إطلالةٍ عبرها في كلّ ٍ من هذه الجدران. وبما أنّ هذه الفتحة الصغيرة لا تَتيح إلاّ مروراً في مدىً ضعيف الاضاءة، فمن من المُمكن أن يكون عدد كبير من النقور في الجدران الجانبية كان يُستخدم للاستفادة عبره من نور الصباح.

 

وعلى العموم فإنّ هذه الكنيسة تحتوي على الاقسام التقليدية الثلاثة: الجِناح، وبيت القُربان وقُدس الاقداس. وهي خالية من الزينة، وحتى من أيّ تجميلٍ كان، باستثناء النافذة والباب اللذين في الجزء الشرقيّ من الحائط الشمالي، حيث نَجِد من جديد السواكف المقوَّسة. والكنيسة، في شكلها الكامل، هي عبارة عن مُستطيلٍ هائل الحَجم وكالح المَنظر، ويترك في مُشاهدها انطباعاً بأنه أُحاديُّ الحجر.