المَعبَد الروماني - حَردين

تُعتَبَر حَردين أول قَرية لبنانية دانَت بالديانة المَسيحية، وهي مَسقَط رأس القديس الأب نعمة الله كسّاب المَعروف بالحَرديني، وهو مُعلِّم القدّيس الأول، الأب شربل مخلوف.

 

ولِتَسميتِها تَفسيرات عِدّة، فأكثر الباحثين والمؤرخين يُجمِعون على أن أصل اسمِها سِرياني ويعني "الخائفون" و"الوَجِلون"، ويُقصَد بِهِم الذين يخافون الله ويتَّقونه، مُستندين في ذلك على أن جَذر "حرد" يعني الخوف والهَلَع والارتجاف. هذا بينما اعتبر غيرهم أن الاسم مُشتَقّ من مَقطعَين ساميَّين: حار ويَعني النَظر، ودين أي القَضاء والحكم. أمّا الرُهبان فيردّ بَعضهم أصل هذا الاسم الى "حارة الدين" او "حارّ في الدين" لِكَثرة الأديار والكنائس هناك، وَعَدَد الرهبان ورجال الدين والحُبساء الذين سكنوا هذه القرية.  وفي المُدَوِّنات قبل المسيح وَرَد اسمِها "حردونا"، وفي مُدَوِّنات القرن الثالث عشر الميلادي وَرَد "حَردو".

 

والبطريرك داود الثاني، المُلقَّب بيوحنّا، هو الذي جَعَل من حَردين مركزاً للبطريركية المارونية قبل أن تَعود الى إيليج في العام 1404. وكانَت قبلَ ذلك مَركزاً لبطريركية اليَعاقِبة، إذ سَكنَها البطريرك فلكسينوس داغر الذي كانت رَعيَّتُه تَمتَدّ حتى النَبَك في سوريا.

 

وكانت حَردين ضَحيةً للصِراعات الدينية والمَذهبية مرّاتٍ عدَّة، خُصوصاً في عَهد ولاة طرابلس إذ أحرقها أحمد الأرناؤوطي، كما شَهِدَت بداية الصراع بين اليَعاقبة والنَساطرة عندما كان يُسيطَر عليها السِريان.

 

وكان لها، خلال هذه الصِراعات، بُطولات، ولَعِبَ أبناؤها دوراً بارزاً. فمُقدَّمها بنيامين الحَرديني قاد فِرقةً من المُقاتلين انتَصَرَت على المَماليك في معركة جبيل عام 1306، وأسَر قائدهم حَمدان واستردَّ المدينة منهم. لكنه دَفَعَ حَياته ثَمناً في المَعرَكة المَذكورة، إذ قُتل قُربَ جِسر الفيدار.. فدُفِن عِندَ صاحِب الأركان في جبيل.

 

وحَردين كانت مأهولة منذ العَهد الفينيقي، إذ عُثر فيها على خَمسين ناووساً من النواويس الفينيقية المَحفورة في الصخور.. والموزَّعَة على أحيائها التي كانت تمرُّ عِبرها الطريق القديمة المعروفة بـ "طريق الشام الرومانية".

 

ما جَعلها قِبلة رجال الِسياسة والحرب الذين يرغبون في تَحصين مواقعهم وجَعل اقتحامها صَعباً على أعدائهم، كونها تَتَمَيَّز بمَوقَعٍ جُغرافيّ مُقفل من ثلاث جهات، فلا يُمكِن ولوجها إلاّ من مَنفذٍ واحد. لذا اتخذها الرومان حُصناً لهم، وبنى اللإمبراطور الروماني أدريان أغوسطينوس (117-138 م)، على أعلى قمةٍ من جَبَلها، قَصراً له، ومَعبداً ضَخماً لإله الشمس مرقوريوس (Mercure) أو عُطارد.. كان يتألف من أعمدة هائلة يُراوِح عددها ما بين الثلاثين والستة والثلاثين عموداً، وهي من الطراز الأيوني النادر، إلاّ أنها تَهَدَّمَت بِفعِل عوامل الزمن، وقد عَمِلت المُديرية العامة للآثار على إعادة ترميم ما سَلِم من أجزائها.

 

وقد نُسجِت حَولَ هذا المَعبد أسطورَة اهتداء سُكان تِلكَ المَنطَقة الى الديانة المسيحية على يَد ابنة الملك الوثني المَعروفة بإسم "سيّدة القلعة". كما وُجِدت فيه لوحة صَخرية ضَخمَة رمادية اللون.. تَمتَدُ انحداراً وتَحتوي على عدد كبيرٍ من المُتَحَجِرات البَحرية. وهناك قولٌ مأثورٌ مفاده: "أن أجمل ما في لبنان ثلاثة: وادي قنّوبين، وقصر بيت الدين، وبلاطة حَردين".

 

وقرية حَردين تحتوي على عَدَد كبير من الأديرة والكنائس والمَحابِس، نَذكُر منها دير مار يوحنّا الشَقف ومغارة تابعة له تَعود الى العهد الصليبي، وكنيسته مَبنية على الطِراز اللاتيني. لطالما كان القديس نعمة الله الحَرديني يزور المَغارة المُجاورة للدير، بغية الصلاة والتأمل، وهي تُعرف باسم مغارة القديس نعمة الله.

 

كذلك هناك كنيسة مار جِرجِس الأثرية، وهي رومانية تَعود الى القرن العاشر الميلادي. وأيضاً دير مار فَوقا، وهو أثر سِرياني من أقدم أديار حَردين إذ يعود الى القرن السادس، بَناه المَطارنة السِريان يوم سَكنوا جَبَلها، إذ أن حَردين جاءها ثلاثة مطارنة سِريان من بِلاد ما بين النهرين وسَكَنوا جَبَلِها وبنوا هذا الدير على اسم القديس فَوقا.

 

هذا بالإضافة الى دير مار سركيس القرن الذي كان مقراً بطريركياً على يد البطريرك داود المُكنّى بيوحنّا (1367-1404) الذي جاءه من دير ايليج وكان أول بطريرك سكن فيه. ويقع هذا الدير في الجهة الشمالية الغربية لجبل حَردين، على حافة الجرف الصخري الشَرقي لقرن حَردين المطلّ على نيحا ومزرعة بني صعب، ويقوم على ارتفاع 1270 متراً عن سطح البحر، ويُطلِق عليه أبناء القرية إسم "دير الرئاسة". وهو يَعود تاريخياً الى القرن الحادي عشر، ويتألف من عِدَة أبنية مُستقِلَة ومُتباعدة تَضُمُّ كنيستين ومَسكِناً للرهبان وثلاثة خزّانات تُجمَع فيها مياه الامطار. بعض هذه الأبنية مُشيَّد بالحجارة، وبعضه الآخر مَحفور في الصخر، والباقي كان من الخشب ومعلَّقاً على جسور خشبية أيضاً، وما زالت النقور في الصخر التي كانت تَرتَكِز عليها هذه الجسور ظاهرةً الى اليوم. أمّا قاعدة البناء فهي مُشَيَّدة بأحجار ضَخمَة، وجُدرانه مُغطاة ببلاطٍ جَصّي أبيض تُزيّنه خُطوط حمراء.

 

وتقوم في نِطاق الدير مَحبَسةٌ داخل تجويفٍ صَخريّ، كانَت مأوى أقدم الراهبات المُستحبِسات في لبنان: سارة الحَردينية في نهاية القرن الثاني عشر الميلادي.

 

والملفت للنّظر أن هذا الدير كان من الأديار المُزدوجة، وقد جاءت الإشارة الى ذلك في نبذة باللغة الفرنسية عنوانها: "الأديرة المارونية المزدوجة في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر" لكاتبتها سابين جدعون محاسب، التي ورد فيها أنه "في القرن الثاني عشر ظَهَر في المَصادِر ذِكر أوائل الأديرة المارونية المُزدوجة، وأحَدُها دير مار سركيس الكائن في قرية حَردين في شمال الجبل اللبناني.. الذي احتفظ بطابَعه المُزدَوِج حتى مُنتَصَف القرن الخامس عَشر وكان مَقراً بطريركياً".

 

وبشأن البطريرك الذي خَلَفَهُ داود يوحنّا هذا يقول الدويهي في سِلسِلته أن البطريرك داود المُكنّى   بـ "يوحنّا" خَلَفَ البطريرك يوحنّا التاسع، وهو ما إستند اليه ليكويان في مؤلَّفه "المَشرِق المسيحيّ" ونَقَلَه عنه المطران يوسف الدبس، مع أن هذا البطريرك خَلَفَ البطريرك جبرائيل من حجولا (الثاني باسم جبرائيل) وليس البطريرك يوحنّا التاسع.

 

إلاّ أنه ينبغي علينا الإشارة الى أن البطريرك داود يوحنّا لَم يَسكُن حَردين وحدها، فقد وَرَد في نبذة عنوانها "البطاركة الموارنة من القرون الوسطى وحتى الآن" أن البطريرك داود الثاني، الذي عُرف ايضاً بإسم داود يوحنّا، إنتُخب في إيليج، وأقام لفترةٍ في بلدة هابيل عند ساحل جبيل. وحقيقة سَكَنَه في هابيل اقتبسها الخور أسقف يوسف داغر عن السِمعاني الذي ذكر أن هذا البطريرك سَكَن في هابيل ثم في دير مار سركيس حَردين، إلاّ أنه لا خِلاف على أنه قَضى الشَطر الأكبر من ولايته البطريركية في دير مار سركيس بقرية حَردين.

 

والنُصوص التي جاءت على ذكر البطريرك داود الذي نَقَل الكرسيّ البطريركيّ الى حَردين نجدها عند البطريرك إسطفان الدويهي، وعند الأب بولس صفير في سِلسِلته، وعِند المطران يوسف الدِبس. والمَرجع الذي استند اليه الدويهي بهذا الخصوص هو الكتاب الذي نَسَخَه في العام 1397 الخوري دانيال الباني، الذي يقول عن كتابه هذا إنه "كان النجاز منه في سنة 1708 يونانية على زمان البطريرك داود المُكنَّى بيوحنّا القاطِن في دير سركيس القرن بأرض حَردين".

 

وهناك مَراجِع أخرى استند اليها الدويهي هي ما كتبه المطران كيرلُّس من جاج، والخوري إليشع الحَبيس، والشَمَّاس موسى المارديني وغيرهم في تعيين مُدَة ولاية هذا البطريرك التي امتَدَّت الى سَبع وثلاثين سنة، حَيثُ بَدأت في العام 1367(بعد مقتل البطريرك حجولا على يد المَماليك) وانتهت بوفاته في العام 1404، وقد جاء تَحديد مُدَة هذه الولاية بسبع وثلاثين سنة في سِلسِلَة الأب بولس صفير المُحَقَقَة.

 

وهناك خِلافات بين المؤرخين بشأن عَدَد من النواحي المُتعَلِقة بهذا البطريرك، فقد اتَهَمَه البَعض باعتِناق بِدعَة اليعاقبة، وبأنه عُزِل عن الكرسي الأنطاكي بأمر من السينودوس، ولكنَّ السِمعاني يَجزُم بأن هذه التَُهمَة لا أصل لها، مُستَنِداً في ذلك الى كتاب "الإحتجاج" للدويهي.

 

كذلك بِشأن تَرتيب هذا البطريرك في سِلسِلة البطاركة الموارنة، نَجِدُه عِند الأب بولس صفير البطريرك الثالث والأربعين وفي سِلسِلة مَسعَد - الجميّل البطريرك الثالث والثلاثين.

 

أمّا العلاّمة السِمعاني فَيذكُر أن البطريرك داود الذي كان يُسمّى يوحنّا (وهو الثاني بإسم داود) هو البطريرك الإنطاكي الماروني التاسع والتسعون، أي إنه جاء بهذا التَرتيب بين البطاركة ساكني أنطاكية ومَن جاء بَعدَهم...

 https://goo.gl/maps/4S6GVzWHkh5vCgXT7 :Location

Video