بلاط قرية من قُرى قضاء جبيل، تَبعُد عن تلك الأخيرة حوالي ثلاثة كيلومترات شرقًا، وعن العاصمة بيروت أربعين كيلومتراً، وترتفع 190 متراً عن سطح البحر. لاسمِها عِدة تفسيرات، منها، بحَسب كتاب "معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية" للدكتور أنيس فريحة، أنّ الاسم قد يكون ساميًّا قديمًا، بمعنى "بيت بلاط" أيّ الملجأ، كما قد يكون من "بلاتا" التي تعني "الهارب"، هذا مع العلم بأنّ الاسم الذي تُعرف به حاليًّا هو اسم عربيّ. أمّا أقرب الفَرضيات إلى حقيقة معنى اسمها فهي كون الأخير لفظة فينيقية بمعنى "البعلة"، أيّ أنثى البعل الذي يعني بالفينيقية الإله، فتكون البعلة هي الإلهة او الربَّة او المولاة (تأنيث المولى)، وتميل الدّفة إلى اعتبار هذا التّفسير هو الأساس لبلاط نظراً لغناها بالآثار المَطمورة في أرضها والتي توحي بأنها كانت مركزاً لعبادة البعل والبعلة. مع الإشارة إلى وجود فرضيّة بعد وهي أن يكون أصل الاسم فينيقياً "بيلاّتي" وهو اسم كان يُطلَق على أحد آلهة الفينيقيين
ويروي Levon Nordiguian في كتابه “Chateaux et Eglises du Moyen Age au Liban” أن الدراسات الأثرية التي أُجريت في تلك القرية أثبتت أنّ كنيسة مار الياس فيها تقوم شاهداً على تَعاقُب الحضارات في منطقة جبيل. وهذه الكنيسة، المُكرَّسة على اسم مار الياس، تنتصب في وسط هذا المجمَّع السكنيّ الذي يتَّسع يومًا بعد يوم، وكان إرنست رينان أول مَن نشر الكتابات اليونانية المنقوشة فيها. وفي السبعينات من القرن الماضي أجرت المديرية العامة للآثار أشغال ترميم ٍ في بُناها التحتية كان لها أثر ملحوظ في إغناء الوثائق المتعلقة بالنقوش التي تحتوي عليها، كما كشفت عن أجزاء من الرسوم الجدرانية الموجودة فيها.
حِجارة هذه الكنيسة تمّ جلبها، على الأرجح، من هيكلٍ يعود إلى العصر الروماني، ومن بينها خمس قِطع تتضمن نقوشاً تتيح لنا تحديد زمن تشييد هذا البناء وهو زمن عهد الأمبراطور أنطونان التقيّ (138-161). أمّا البقايا المكتشَفة في المكان نفسه فتنقسم إلى ثلاث فئات: كتل من فنّ العمارة المُحدَّبة، وأخرى تلتزم أصول فنّ الهندسة المعمارية، وبلاطة ضَخمة منحوتة تمثّل رجلاً.. مَوجودة حاليّاً جنوبيَّ الباب الغربي ويفترض أنّها جُلبت من أحد المدافن.
من الناحية المِعمارية تظهر هذه الكنيسة على شكل بناءٍ ضخمٍ مستطيل من دون أيّ عنصرٍ بارز إلى الخارج. فيها بابان في جهتَيها المُستطيلتين وباب آخر في الواجهة الغربية. وثمة فتحتان يتسرَّب منهما النور إلى المعازب الشرقية. وبحسب مُخطط ثلاثيّ الأقسام يفصل بين أجنحتها قوسان يشكّلان أربع معازب (travées) ، وحَنيّاتهما المَكسورة تَستنِد إلى ركائز عظيمة مُستطيلة أُحادية الحجر. وهذه الركائز تمّ إحضارها، كما تُظهر دلائلها، من مبنىً يعود إلى العصور القديمة (antiques) . والأجنحة تنتهي في الجهة الشرقية بوسادة مُسطَّحة في الداخل والخارج معاً، وهو شكل غير مُتوقَّع في كنيسة تعود إلى العَصر الوسيط، خُصوصاً في ما يتعلَّق بالجناح الأوسط. أمّا حائط الوسادة فلا يبدو لنا أنه معاصر بكامله للجِناح.
في الكنيسة قِطعتان مرسوم عليهما: إحداهما على الحائط الجنوبي وتُمثّل فارساً، والأخرى على الوجه الغربي لركيزة القوس الشمالي الأكثر جنوحاً إلى الغرب، وهي تُمثّل شخصاً يحمل صليب شهيد ويعتمر قلنسوةً مخروطية الشكل.
أمّا ندى حلو في كتابها "La Fresque (I)" فهي تَذكُر، في الفصل الذي خَصَّصته لكنائس ناحيتَي جبيل والبترون، إنّ كنيسة مار الياس في بلاط – جبيل مَبنية في جزءٍ منها بحجارة هيكلٍ رومانيّ ٍقديم كان قائماً في موضعها الحاليّ أو في ضواحيه. وتُضيف إنّ كتاباتٍ عديدة منقوشةً باللغة اليونانية على حِجارتها تُحدّد زمن بناء هذا الهيكل على عهد أنطونان التقيّ (138-161)، أمّا تاريخ بناء الكنيسة فلا يزال غير محدَّد.
وتَسترسِل المؤلفة في كلامها عن هذه الكنيسة قائلةً إنها تبدو من الخارج كِتلةً مَستطيلة أكبر قليلاً من كنيسة بَحديدات، ولها ثلاثة أبواب مفتوحة على الجهات الشمالية والغربية والجنوبية. أمّا الداخل فهو مفصول بصفَّين من القناطر ذات أربع معازب مفسَّخة قليلاً، وهي تستند على ركائز قصيرة وسمينة ذات تصميمٍ طوليّ وأشكالٍ ريفية (rustiques). والحائط الشرقي، الكائن خلف المذبح، هو مُستقيم ويبدو أنه يعود إلى حَقبة أكثر قِدماً من بقية الكنيسة التي تعود إلى العصور الوسيطة (Moyen Age) . وقد صُقلت ( (décaper الجُدران منذ مدةٍ غير بعيدة، أمّا ما تبقّى من الرسوم الصّغيرة التي كانت ماثلةً عليها فيشهَد على أنّها تعود إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر. ولنا أن نتكهَّن، بالنسبة إلى حائطها الجنوبيّ، ان الاجزاء الباقية من الرسوم التي كانت على هذا الحائط تمثّل فارساً قدّيساً مع دِرعِه النصف دائريّ الموضوع على دابَّته (monture) إلى الوراء، ومَلامحُه تَدلُّ على أنه القدّيس سيرج أو القدّيس باخوس. ونَتبيَّن على الركيزة المُقابلة له هيئة العذراء مع طفلها. وعلى الركيزة الشمالية الغربية يظهر وجهٌ مَمحوٌّ جدّاً لقديسٍ يَحمِل صليباً بيده ويعتمر ما يشبه القلنسوة على رأسه.
وبالعودة إلى الكتابات اليونانية التي أشرنا اليها اعلاه يمكن ان نقرأ، على العتبة الموجودة عند مدخل الكنيسة الجنوبيّ، عبارة:
"ET DIONYSIOU TOUKA"
وفي وصفٍ آخر لهذه الكنيسة نقرأ عند الدكتور كريستيان الخوري، في كتابه "العذراء مريم في لبنان" – الجزء السابع، انها تُقسم إلى سوقٍ رئيسيَّة وسوقَين ثانويَّتين. فالسوق الرئيسية تنتهي بحنيَّة مُنبسطة ذات ثنيَّة واحدة غائرة. وتفصل بين الأسواق الثلاثة عقود ثلاثة نصف دائرية ومجوَّفة تقوم ركائزها على حجارة ضخمة. وفي آخر الكنيسة لناحية الباب الغربي بقايا تمثال لشخصية رومانية. والكتابات التي تنتشر داخل الكنيسة وخارجها ومحفورةٌ في الحجر تشير إلى ان الهيكل القديم الذي قامت الكنيسة مقامه شُيّد على اسم كبير آلهة الفينيقيين بَعل أو تمّوز. والصورة التي تعلو المَذبح تُمثّل مار الياس، وهي من رسِم كنعان ديب الدلبتاني. وفي عهد المماليك استُعملت هذه الكنيسة كخانٍ، أيّ منزول، للمُسافرين والغرباء، وفي بداية العهد العُثماني استخدمت اسطبلاً للخيل في قسمٍ منها، وفي القسم الآخر أُنشئت معصرة للزيتون.
وفي أوآخر القرن الثامن عشر قَدِمَ الشيخ وهبه الدحداح الأول من كسروان واستملك بلاط، فَحوَّل الاسطبل الذي أصبح من أملاكه إلى كنيسة على اسم مار الياس وأعاد ترميمها، فكرَّسها المطران يوسف المريض في 4 كانون الأول 1870. وفي العام 1919 ضربتها صاعقة، فأعاد الشيخ إسكندر كنعان وهبه الدحداح ترميمها. وفي العام 1978 قامت مديرية الآثار بترميمها على الشكل الذي تقوم عليه الآن.
Location: https://goo.gl/maps/iEpChXMTnDA6f8s76
Video: https://youtu.be/Q79PZ6Yf0Dc