من قرية صغيرة مُتواضِعة في قضاء البترون، تشّع أنوار وتَظهُر مَعالَم أثريّة تَضَع هذه القرية الوادعة في طليعة المَواقِع الدّينيّة والتّاريخيّة في لبنان، من حَيث أهمّيّتها، مع كونها ما زالت غير معروفة... تقع هذه القرية في وسط قضاء البترون، ترتفع عن سطح البحر حوالي 700 متر، وتبعد عن مدينة البترون، مركز القضاء، حوالي عشرين كيلومترًا، وتَمرّ الطّريق المؤدّية إليها بقرى إجدبرا، عبرين، بجدرفل، عين عيّا، وطى صورات ورشكيدا. وكلمة "كفرشليمان" هي سِريانيّة مُركّبة من جزأين : كفر وتعني حقل، وشليمان أيّ سليمان، يصبح المعنى التّام إذًا "حقل سليمان" .
كانت تقوم في تلك القرية مَملكة فينيقيّة، ومن بقاياها مَعبد، تحوَّل في القرن الخامس الميلاديّ، مع انتشار الدّيانة المسيحيّة، إلى كنيسة على اسم صيدنايا. وهذا المعبد، كما يبدو كان في الأصل خزّانًا للمياه او مَدفنًا، وهو كناية عن غرفة مَحفورَة في الصّخر لا تتعدّى الثّلاثة أمتار طولًا والمترين عرضًا وارتفاعًا، وهي لا تتّسع لأكثر من ثلاثة او أربعة أشخاص، وقد ازدانت برُسوم وجدرانيّات ونُقوش مُميّزة على صُخورِها.
في العام 2007 تمّ تَرميم هذا المَعبد من قِبل "جمعيّة المحافظة على جدرانيّات الكنائس القديمة في لبنان"، وذلك بتمويل من مؤسّسة فيليب جبر الّتي تبرّعت بالتّكاليف.
داخل هذا المَعبد تُطالعنا الجدرانيّات والرّسوم على الجوانب والسّقف، مِنها الجدرانيّة الّتي تزيّن الحائط خلف المذبح والّتي تُصوّر مَشهد التّضرُّع المؤلّف من وجه المسيح وهو يُبارك، ووجهيّ العذراء ويوحنّا المعمدان يتوسّطهما المسيح وهما يتّجهان نحوه طالبَين الشّفاعة للبشريّة. كما تبدو على الحائط الشّمالي العذراء المُرضِعة. وعلى يمين المَدخل مَشهد غير مألوف، إذ نرى شابًّا يستعدّ لإطلاق سَهمه على غزال، ويتوسّط هذين الرّسمين صليب مع كتابة باليونانيّة تقول: "يسوع المسيح مُنتصر". نُسِبَت هذه الصّورة الى رؤية القدّيس أفستاقيوس الّذي كان من القدّيسين الأكثر شعبيّةً في الشّرق المسيحيّ، والّذي تَخلّى عن وثنيّته إثر ظهور المسيح له وهو في الصّيد. وتَظهَر على الحائط الغربيّ بقايا صورة كانت تُمثّل القدّيس جاورجيوس على الحِصان. أما السّقف فتَحتلُّهُ صورة المسيح على العرش وهو يبارك بيد ويحمل الكتاب بأخرى، وتُحيط به الكائنات السّماويّة الّتي لم يبقَ منها سوى وجه ساروفيم، والأسد والملاك، ويُجَسِّد كلّ من هذين الأخيرين الإنجيليَّين مرقس ومتّى. ويظهر على جانبَيّ وجه المُخلّص القمر والشّمس. وتعود هذه الصّور من حيث أسلوبها الى القرن الثّالث عشر.
وقد سُميّت هذه الكنيسة على اسم صيدنايا تَيَمّنًا بدير صيدنايا في سوريا الّذي يَرجع بناؤه الى سنة 547 للمسيح. والشّائِع لدى المؤرّخين أُسطورة تقول بأنّ الإمبراطور البيزنطيّ يوستينيانوس الأوّل لمّا خرج بِجَيشه لمُهاجة الفُرس، ولدى مرورِه في منطقة صحراويّة في سوريا، في محلّة نايا (الّتي تعني أراضي أو أماكن للصّيد) فتك به وبجنوده العَطش، فظهرت عليه غَزالة أخذ يُطاردها، فمالت الى ينبوع ماء، ولم تَترُك له فرصَة لإطلاق النّار عليها واصطيادها، إذ تحوّلت إلى أيقونة للسّيّدة العذراء، ومن ثمّ خرجت منها وقالت له " لن تقتلني يا يوستينيانوس، بل سَتُشيِّد لي هنا كنيسة على هذه الرّابية". ثمّ غاب شَبح الغزالة، وعادت إليه في الحلم لتَرسُم له تصميمًا للدّير نُفّذ آنذاك وما زال حتّى اليوم مُحتفظًا بعظمته البيزنطيّة.
ويُذكر أنّ البطريرك يوسف التّيّان (1796-1809) كان يختلي في هذا المَعبد للصّلاة، بعدما استقال من السّدة البطريركيّة. وأقام في القرية المذكورة بناءً على طلب أحد أبنائها لاوندس المُلقّب بـ "أبو شديد" الّذي كانت تَربطه به صداقة ، وكان من مُرافقي يوسف بك كرم، فبنى له غرفة مجاورة لدارته القريبة من الكنيسة.
ويروي الأب لويس صفير بهذا الخصوص، في كتابه "البطريرك يوسف التّيّان (1760-1820)"، أنّ رجلًا يُدعى أبو شديد، من كفرشليمان، الواقعة قرب إكليريكيّة القدّيس يوحنّا مارون، والّذي كانت تربطه صداقة متينة بالبطريرك التّيّان، بنى له غرفةً قرب مَعبَد مُكرّس على اسم سيّدة صيدنايا حيث كان البطريرك التّيّان يترَدَّد مرّتين في الأسبوع للصّلاة والتّأمّل. وقبل ذهابه إلى قنّوبين للمَرّة الأخيرة قال لأبو شديد: "إهدِم هذه الغرفة الّتي بَنَيتها لي بما أنّني لن أرجع إليها، إهدمها خوفًا من أن يَعمِد الوقف، بعد موتي، إلى المُطالبة بكُلّ الأملاك الّتي تحيط بها".
Location: https://goo.gl/maps/y2XEei2meq9FoJ68A
https://youtu.be/OokCQlrJpaA Video