إنتشار المسيحية والكنائس الخَمس

إن انتشار الديانة المسيحية في الشرق والغرب أدّى إلى نشوء خمس كنائس، أُولاها كنيسة اورشليم التي هي أمُّ الكنائس لأن مؤسسها هو السيّد المسيح نفسه ومنها انطلقت البشارة إلى أربعة اقطار العالـم، ثم الكنائس الأربع الاخرى التي انشأها الرسل : كنيسة الإسكندرية ومؤسسها هو القديس مُرقص الإنجيلي، ولا تزال البطريركية القبطيـة في مصر، وريثة هذه الكنيسـة، تحمل اسم "الكرازة المُرقصية"، وكنيسة أنطاكيـة التي أسَّسها القديس بطرس قبل أن ينتقل إلى روما ويؤسس فيها كنيستها، وكنيسـة القسطنطينية التي قامت لأن هذه المدينـة أصبحت عاصمة الأمبراطورية البيزنطية، او أمبراطورية الشرق، بعد ان انقسمت الأمبراطورية الرومانية إلى إثنتين: شرقية وغربية على يد الامبراطور قسطنطين، فكانت روما عاصمة أمبراطورية الغرب وقد كانت سابقـاً عاصمة الأمبراطورية الموحَّدة، وقاعدة الكنيسة اللاتينية وعلى رأسها البابا الذي يحمل بين ألقابه لقب "خليفة القديس بطرس" و" بطريرك الغرب"، وبيزنطية، أو القسطنطينية، عاصمة الأمبراطورية الشرقية التي دُعيت "الأمبراطورية البيزنطية" ودعاها العرب من ثم باسم "مملكة الروم".

 

كنيسة أورشليم، رغم أنها الأولى بين الكنائس وتَنتَسِب إلى السيّد المسيـح بالذات، فَقَدت أهميتها بعد تدمير الرومان لمدينة أورشليـم (القدس) وخراب الهيكل في السنة السبعين للميلاد، فأُلحقت بالكنيسـة الإنطاكية اداريـاً وطقسيـاً. وفي السنة 451 ميلادية، أي غداة انعقاد المجمع المسكوني الخلقيدوني، انفصلت البطريركية الأورشليمية إدارياً عن أنطاكيـة وأصبحت من جديد كرسيّاً قائماً بذاته، إنما ظلَّت مُرتبطة طقسياً بالكرسيّ الإنطـاكي أي مُعتمدةً الليتورجيا الإنطاكيــة السريانية.

 

الكرسيّ الانطاكي :

اعتنقت مدينة إنطاكيـة دين المسيـح على يد بعض من تلاميذه، وتَعَمَّقت في إيمانهـا على أيدي الرسولين برنابـا وبولس، ورَئِسَ بطرس كنيستها، وعرفت الإزدهار والإتّسـاع،  فأصبحت واحدةً من البطريركيات الخمس الكبرى. لكنَّ الخلافات العقائدية ذرَّت قرنها بين أحبار الكنائس، من قائل بالطبيعتين في المسيح ومن قائل بالطبيعـة الواحدة ( يعقوب البرادعي)، ومن قائل بمشيئتين في شخصه يقابل القائلين بمشيئة واحدة ، فضلاً عن بِدعتَـي أريـوس ونسطور. فكـان البطاركة ينحازون كل منهم إلى بِدعة من هذه البِدع، أو ينتقلون في مُعتقدهم من واحدة إلى أخرى. ومن ذلك أنه، فــي العام 518، أُزيح البطريرك ساويروس عن كرسيّه الأنطاكي بسبب انكاره الطبيعتين في المسيح ورَفضِه مُقررات المَجمَع الخلقيدوني وأقيم مكانه بطريرك كاثوليكي هو البطريـرك بولس. ولكنَّ المسيحيين لم يقبلوا جميعاً بهذا التدبير، فانقسمت الكنيسة قسمين: قسم كاثوليكي وقسم غير كاثوليكي، فأصبح منذ ذلك الحين يقوم بطريرك كاثوليكي يؤيد مجمع خلقيدونية، وبطريرك غير كاثوليكي يعارضه تبعاً لإنحياز كلٍ من البطاركة.

 

الموارنـة هم المسيحيون الذين تَجمَّعوا حَول كاهن يُدعى مارون وتبنّوا طريقتـه في الحياة. وهو قَـد عاش قرب إنطاكيــة، ثم هَجَر هذه المدينـة إلى الجبل ليكون بمنأى عن المُساجلات اللاهوتيـة، مَمّا يَدلّ على إن أب الطائفــة المارونيـة لم يرغَب الدخول في" الجَدَل البيزنطي" حول طبيعة المسـيح ومشيئته الخ... أو أن هذا الجدل لم يكن قائماً في عهده، فآمن بالمسـيح بقطـع النظرعن التفاصيل التي أخذ بها من بعده خليفته يوحنــا مارون والذين تعاقبـوا على أثره، فانضمّوا إلى القائليـن بالطبيعتين والمشيئتين في المسيح حَسب مُقررات المجمع الخلقيدوني.

 

وفي "معُجم البطاركة الموارنة" للدكتور جوزف لطَيف، نقلاً عن المؤرخ تيودوريتوس أسقف قورش من القرن الخامس، في كتابه "التاريخ الرهباني" الذي وضعه حوالي سنة 440م، وهو يُدعى أيضاً "تاريخ أحباء الله"، أن مارون " وُلد في القرن الرابـع، وكَفَر بِنفسِه وهَجَر العالم إلى جبل في شمالي سوريـا مُعتزلاً فيه، عائشــاً حياة الصلاة والتقشُّف، على الأرجح، في قلعة كالوتـا. مات في اوائل القرن الخامس بين 405 و 415، فراح سُكـان القرى المُجاورة  يتنازعون على جُثمانـه ليحفظوه ذخيرةً في كنيسـتهم، وكانت الغلبـة للبلدة الأكثر عـدداً والأقوى، مدينـة براد الواقعة في جبال قورش شماليّ غربيّ سورية". 

 

فالقديس مارون، إذن، لم يَسكُن براد بل دُفن فيها، ويتابع تيودوريتوس في كتابه المذكور:" سنة 452 م. بنى الأمبراطور مارسيانُس، في جوار أفاميا عاصمة سورية الثانية، ديراً كبيراً على اسم القديس مارون ليَسكُن فيه تلاميذ مارون الكثيرون، فكان هذا الدير مَهد الكنيسـة المارونيـة". وفي الحاشية ان هذا الدير لا أثر له في أيامنا، فيكون هو المعروف بدير مار مارون العاصي في سورية.

 

ويَستطرِد تيودوريتوس قائلاً: "وصل عدد غير قليل من رهبان هذا الدير إلى منبع نهر العاصي في لبنان (مغارة الراهب في الهرمل)، ومنه انتقلوا إلى جـِبة بشرّي وإلى البترون وجبيل، وأسَّسوا أبرشيـات بقيت على تواصل دائـم مع دير مار مارون الأمّ حتى القرن العاشر او الحادي عشر، تاريخ سقوط هذا الدير".

 

وفي عِزلته إكتشف مارون أن الدعوة التي دُعي إليها هي أن يعيش مع شَعبِه ويُلقّنه عقيدتـه، فعاد إلى الشعب وراح أتباعه يزدادون عدداً، فاتخذوا اسمه وأصبحوا "الموارنة". وبعد موته تابع تلامذته الرسالة التي بدأها، وفي العام 451 دافعوا عن عقيدة أن المسيح هو إله وإنسان معـاً. الخلاصة أن مارون عاد إلى شعبـه ليُلقّنه عَقيدتـه دون أن يَدخُل في المواضيـــع التي كانت مثار الجدل أو لم تَكُن قد أثيرت في إيامه، وأن تلامذته هم الذين دافعوا عن عقيدة الطبيعتين في المسيح، فأصبح أعداء المجمع الخلقيدوني أعداء للموارنـة حيث ذهب منهم شهداء بالمئات.

وبعد ذلك بنحو قرنٍ طرأ على البطريركية الانطاكية إنقسام آخر في القرن السابع بين السريان والموارنة والمَلَكيين، فَتَعَدَدَت البَطريركيات بَتَعدد الطوائف وهي الملكية والمارونية والسريانية والأشورية والأرمنية التي اتخذت كُلٌ مِنها بطريركاً خاصاً بها، ثم أضيف إليهم في القرن الثاني عشر بطريرك سادس هو البطريرك اللاتيني الذي لم يَنتسِب إلى أنطاكية بل جَعَل مركزه أورشليم ودُعِيَ البطريرك الإورشليمي.

 

كما إن الأشوريين والكلدان لم ينتسبوا إلى أنطاكية بل إعتمدوا بابل كرسيّاً بطريركياً لهم، والأرمن دعوا بطريركهم كاثوليكوس كيليكيا. وهكذا كانت كنيسة أنطاكيا كنيسة واحدة تَشمُل كل آسيا والمشرق، فأصبحت كنائس عِدَة كل منها ينتسب إليها ويحمل اسمها؛ وكان لها بطريرك واحد، فأصبح لها بطاركة عديدون.

 

إن وصف هذا التَعَدُّد للبطريركيات بأنه انشقاق داخل الكنيسة الانطاكية لا يُصَوّر الواقــع، ففي نشرة تحت عنوان: " نشأة البطريركية المارونية" نَجِد التفسير الصحيح لقيام بطريركيــة خاصة بالموارنـة وبطريركيـات لسائر الطوائف التي تَرتَبِط بكنيسة أنطاكية، تقول هذه النشرة:" في القرن السابع، وبينمـا كان دير مار مارون يَتمَتــَع بنفوذ وأهمية، دخل العرب المُسلمون سوريـة الثانية، فشَغَر كُرسيّ انطاكيـة الرسميّ على مدى قرنٍ كامــل. وبعد وفـاة البطريرك أثناسيوس الثاني في سنة 609 كان البطريـرك الأنطاكـي يُعيَّن اسميـاً، ويقطن القُسطنطينية لأنه لم يَعـُـد باستطاعته أن يكون في كرسيّه بأنطاكية بعد الغزو العربي".

"وفي النصف الأول من القرن الثامن، تتابع النشرة، توقفت القسطنطينية عن تسمية البطريرك الأنطاكي، فَشَغَر هذا الكرسيّ فعلياً بين 702 و 742.. في هذه الحَقَبة المُضطَرِبة والملأى بالأحداث. وبينما كانت الكنيسة الأنطاكيـة الرسمية بدون بطريرك أعلن دير مار مارون، ذو النفوذ والسطوة، والمُتَمَتعِ بالحقوق على الشَعب والقرى المُحيطة بالديـــر، استقلاله، فأنشأ كنيسةً على رأسها بطريرك ماروني. وهكذا نشأت الكنيسة المارونيـة مُستقلةً عن سائر الكنائس ومُرتبطة بها في آن، فأقام دير مار مارون على رأسها بطريركاً مـن رهبانه، وأول بطريرك هو يوحنـا مارون مطران البترون، وذلك في أوآخر القرن السابـع او بداية القرن الثامن".

 

كمـا نُطالع في الكتابات التاريخية عن هذه المرحلة انه إثر الفتح العربي فَقَد المَلكيون البيزنطيون حِظوتهــم لدى السلطة لأن الخلفاء الأمويين تخوَّفوا من الرابط بين المَلَكيين وبيزنطيـة، فمُنع المَلَكيون من إقامة بطاركة لهم. فأقــام الأباطرة البيزنطيون بطاركة اسميين لأنطاكية في القسطنطينية، وظلت الحالة على ما هي عليه ما يفوق الأربعين عامـاً. وما عدا ذلك فإن أغلب سكان الرعية الأنطاكيـة من الخلقيدونيين كانوا من الموارنـة، لأن أعداد تابعي الطقس المَلَكي البيزنطـي تراجعت امام تقدُّم الدين الاسلامي. وفي هذه الظروف اجتمع الأساقفة الموارنـة وانتخبوا في دير مار مارون علـى العاصي يوحنا مارون بطريركاً في العام 685 إثر وفاة البطريـرك تيوفانس في القسطنطينية وشغور الكرسيّ الانطاكي، فأصبح الموارنـة بذلك طائفة وفق المفهوم المتوافَق عليه للكلمة، وورثوا أيضاً رئاسة الكرسيّ الأنطاكي.

 

من هذا نعرف لماذا أصبح للموارنة بطريرك خاص بِهم بعد أن كان لأنطاكيـة كرسيّ بطريركيّ واحد. فالأمر لم يكن انشقاقـاً، بل تفرُّعاً للكرسيّ الأنطاكيّ الواحد إلى عدة كراسٍ كل منها ينتسب إلى أنطاكيـة. والسبب يرجــع إلى شغور الكرسيّ الأنطاكيّ اي خلوّه من بطريرك، مما جعل الطوائف التابعة له تَضطَر إلى انتخاب أو تسمية بطريرك لكلٍ منها.. دون ان تتخلّى عن تسميته " بطريرك أنطاكية".

 

وتؤيد ما ورد اعلاه حول الأسبـاب التي حَدَت بالموارنـة إلى اتخاذ بطريـرك خاص بهم نصوص أخرى تقول:" وإذ غدت علاقاتهم (الموارنة) ببطريركية القَسطنطينية صَعبة بعد حلول العرب في المنطقة فقد اضطرهـم ذلك إلـى انتخاب بطريرك خاص بهم، فكان هذا البطريـرك القديس يوحنا مارون، وذلك في العام 685. ومن جهة ثانية كــان أمبراطور بيزنطية يتصرف كأنه هو ملك الكنيسة، فكان يُعيِّن البطاركـة ويتدخل في الشؤون الكنسية . فلم يُسـمح بأن يكون للموارنـة بطريـرك خاص بهم، لذلك فخلال جولـة للجيش البيزنطي في المنطقة هاجمهم، ونشبت بينه وبينهـم معركة في أميون كان النصر فيها للموارنة". وهكذا رسَّخ الموارنة بطريركيتهم، فلحقها ولَحِقهم الكثير مـن الاضطهادات والتنقل من مكان إلى آخر ولكن دون شغور في الكرسيّ البطريركيّ او إلغاء.

 

 وكثيرون من الباحثين شكّوا بحقيقـة وجود هذا البطريرك، ولكنَّ تأكيد وجوده، وكونه الأول في سلسلة البطاركة الموارنـة، نأخذه من مخطوطات في المكتبة الفاتيكانيـة ذكرها وأورد نصوصها الاب بطرس فهد في كتابه: " القديس يوحنا مارون، البطريرك الأنطاكيّ الأول على الطائفة المارونية". فَمِن بين المَخطوطات القديمـة الهامَّـة التي ذكرهـا مُصَنَّف يعود إلى القرن الرابـع عشر اسمه "إيضاح الإيمان" او "شرح الإيمان"، "وضعـه البطريرك الانطاكي الماروني الأول يوحنا مارون تحت رقم 146 من القسم السرياني، وهو مَحفوظ في مَكتبــة الواتيكان، ومنسوخ سنة 1392 في حاقل بلبنان بيد الشماس يوسف الضيف، الذي كان مُقيماً عهدئذٍ في بلدة بان من جبَّة بشرّاي كما هو وارد في هذا المخطوط، وقد بَعَث به البطريرك يوحنا مارون من دير مار مارون بسوريّا إلى رعيته يفنّد به بدعـة القائلين بالطبيعة الواحدة في السيّد المسيح، ويرذل هَرطَقَـة النساطرة، ويَستَشهِِد بمُعتقد المجامِع الأربعة وهي النيقاوي والقسطنطيني والأفسسي والخلقيدوني، مُثبتاً إعتقاده الكاثوليكي هذا فـــي النص السرياني دون الترجمة العربية، لأن هذه في غالب الأحيان كانت غير مُطابقة للنص السرياني الأصلي".   

هذه فحوى ما ورد في هذا المُصنَّف المَحفوظ في المكتبة الفاتيكانية، والذي أورده الأب بطرس فهد في كتابه المشار إليه. ويُضيف الأب فهد أن هذا المخطوط هو من كُتُب العلاّمة الحاقلاني الماروني، ومن المخطوطات الشهيرة التي وقفها لمكتبة الفاتيكان. وهناك كتاب خَطي ثانٍ من هذه المَخطوطات باللغة السريانية يقول ما مؤدّاه:" باسم الله نشرع بكتابة إيضاح الإيمان المُقدَّس، اعتقاد البيعة الرسولية، الذي كتبه القديس يوحنا مارون بطريرك أنطاكيا وسائر بلاد الشام وسوريا في دير مار مارون على نهر العاصي، في جوار حماه وحمص، وأرسله إلى جبل لبنان، ولذلك دُعي أهل ذلك الجبل "موارنة" على اسم الدير. ونُسب يوحنا إلى اسم هذا الدير، فدُعي يوحنا مارون".

 

هذه وثائق قديمة تُثْبت الصفة البطريركية للقدّيس يوحنا مارون وكونه البطريرك الماروني الأول. فما دام هو الأول في البطاركة الموارنة فمعنى ذلك ان الكرسيّ البطريركي الماروني بدأ معه. ولكننا، في هذه النصوص، نَفتَقِد تاريخ تنصيب القدّيس يوحنا مارون بطريركاً، وبالتالي تاريخ بدء وجود كرسيّ بطريركي للموارنة. إنما ما دام يوحنا مارون قد استشهد بالمجامع المسكونية التي أقرَّت الإيمان الذي هو عليه في رسالته إلى سكان جبل لبنان، وآخرها المجمع الخلقيدوني الذي نعرف انه انعقد سنة 451، فإننا نستخلص من ذلك ان هذا الكرسيّ تأسَّـس بعد هذا التاريخ، وان كان الاب أنطوان ضو قد حَدَّدَ تاريخ تأسيس البطريركية المارونية في أوآخر القرن السابع، كما أن النشرة التي بعنوان " نشأة  البطريركية المارونية " تقول أن ذلك كان في أوآخر القرن السابع أو بداية القرن الثامن.

 

الأديار البطريركية المارونية :

لا يُمكننا أن نَتَحدث عن الكنيسة المارونية بدون أن نتحدث عن أديارها. فالبطاركـة الموارنـة ، في البدء، لم يكن لهم مقرّ بطريركي ثابت،  بل كانوا يقيمون في الأديار التابعة للطائفـة او يلجأون إليها لجوءاً هربـاً من الإضطهادات، وذلك حَسبَ الأماكن الآمنة نسبياً، وبعضهم كان يقيم في مسقط رأسه أو في المغاور. ومِماّ يلفت النظر أن كافة المَقَرّات الرئيسية للبطاركة، ومعظم الأديار الأخرى التي سَكنوها في أزمنة معيَّنة، كانت "سَيّدية" بمعنى تَكريسها على اسم السيّدة العذراء. وهذا ما جاء في عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في استقبال تمثال العذراء أُمّ النور في بكركي عام 2013: " يُسعدنا أن نَستقبل مَعَكم أمّنا مريم العذراء، أمّ الكنيسة وسيّدة لبنان، باستقبال تمثالها، تمثال مريم أًمّ النور، في هذا الكرسيّ البطريركي الموضوع تحت حِمايتها. إنّ لزيارتكِ يا مريم لهذا الكُرسيّ البطريركي، في خِتام تطوافكِ، مدلولاتها الكنسية والوطنية. لقد رافقتِ مسيرة البطريركية في كلّ مَحطّاتها من مقام إلى مقام: من إيليج إلى يانوح وهابيل، فإلى قنوبين والديمان، وصولاً إلى بكركي حيث تَتَكرّمين فيها أيتها الكُلّيّة القداسة كسُلطانة الإنتقال، فَطَبَعْتِ البطريركية وكنيستَنا المارونية بوجهكِ وروحانيتِكِ المريمية. لقد تنقّلتِ، يا مريم، مع بطاركتنا على قِمَم الجبال حيث يُحلّق النسور، وفي قَعِر الوادي المُقدَّس حيث يَسكن الحُبساء ولا يرَون إلا وجه السماء؛ تنقّلتِ معهم كالأمّ بِطفلها.. هربًا من الجور والظُلم، ومن وجه الفاتحين، منذ عهد البطريرك الأول القديس يوحنّا مارون في أواخر القرن السابع، وهم، كما كُتِبَ عنهم، "حاملون عروشهم على ظهورهم" من أجل حماية الأغليَين: أبناء كنيستهم وبناتها، مع حفظ وحدتهم وصفاء إيمانهم الكاثوليكي على ما هم عليه، واستقلالية الجبل اللبناني حتى بلغوا به إلى ما هو عليه اليوم...".

أجل كما ورد في عظة البطريرك الراعي أعلاه فإن البطاركة الموارنة ظلّوا في سَفَر دائم، وتنقّلوا من ديرٍ إلى دير، ومن مغارة إلى مغارة، وعندما استقرّوا كانت بطريركياتهم في كهوفٍ ومغاور في جبال ووديان بلاد جبيل والبترون ووادي قاديشا... إلى أن حَطَّ بهم الرحال في كسروان، وآخر أمكنة إقامتهم هو دير بكركي.

 

وقد أورد الأب ميشال عويط، في كتابه "الموارنة، مَن هم وماذا يريدون؟"، الصُعوبات والمُعاناة التي تحمّلها البطاركة الموارنة فقال: "عَصر المماليك هو عَصر ذاق فيه الموارنة الأمرَّين، وقد أصاب بطاركتهم منه النصيب الاكبر. فكان هذا يُهان، وهذا يُشرَّد، وهذا يُساق إلى المحاكمة، وهذا يقاوم وهذا يُحْرَق حياً... ولكن قبل المماليك كان البطاركة قد لاقوا العديد من الشدائد. فقد ظلّت البطريركية المارونية خمسماية سنة ونيّفاً في منطقة جبيل، من سنة 937 إلى سنة 1440. وكانت تلك الحقبة من الزمن أصعَب حَقَبة عَرِفتها الطائفة، فَنُقل الكرسيّ البطريركي إلى أماكن عديدة وتعاقب عليه 34 بطريركاً".

 

أمّا ما هي هذه الاديـار والمراكز.. فبالنسبة إلى اوائلها نعود إلى الأب أنطوان ضو في مقالٍ له عن "تاريــــخ البطريركية الأنطاكية المارونية" –"المشرق" الذي يقول فيه: "أقام البطاركة الموارنة، منذ تأسيس البطريركية المارونية في أوآخر القرن السابع إلى سنة 949، في مدينة أنطاكية وفي دير مار مارون العاصي في سوريــا". والسنة التي ذكرهـا هي تاريخ مجيء أول بطريـرك ماروني إلى لبنان، وانتقال الكُرسيّ البطريركي الماروني ، تبعاً لذلك، من سوريـا إلى لبنان. ولكنَّ الأب ضو، خلافاً للشائع والمُتعارف عليه، وللتقليد الماروني، يقول في مقاله هذا:" الأبحاث التاريخيـة الحديثة تُبرهن على أن أول بطريرك ماروني أقام في لبنان هو يوحنا مارون الثاني وليس يوحنا مارون الأول". إلا أن الأب ضو يُصيب حين يقول:" البطاركـة الموارنـة كانوا، في الأساس، رهبانـاً إرتاحوا إلى سكن الأديار". فقد سكنوا، في اوائل عهدهم، الأديار وتنقَّلوا ما بينها، ولم يصبح لهم مقرّات خاصة وثابتة الا في الأزمنة القريبة. والأب ضو ينقل، كما قال، عن " تاريخ الأزمنة " للبطريـرك اسطفان الدويهي، ليُثْبت رأياً خاصاً له أن أول ديـر بطريركي مارونـي في لبنان هو دير سيّدة يانوح وليسَ دير مار مارون كفرحَي الذي سُمّي في ما بعد دير مار يوحنـا مارون: " إنَّ البطريـرك يوحنا، عندما انتقل من أنطاكيـة إلى جبل لبنان، قَصَد زيـارة القُدس الشريـف والمواضـع المقدَّسة، فلم يتركه المُسلمون، بل أنه مضى إلى يانوح".

 

فَفَضلاً عن إننا لم نَجِد هذا النص في " تاريخ الأزمنة " للدويهي نَجِد الأب ضو نفسه يَعود فيورد ما جـاء في ذيل  "المَجمَع اللبناني" من أن مقام الكُرسيّ البطريركي كان في أول الأمر بدير القدّيس مارون في كفرحَـي من أبرشــية البترون، حيث أقام منذ سنة 685 ثلاثة من البطاركة وهم يوحنا مارون وقورش وجبرائيل. وفي حديثه عن يانوح يقول الأب ضو، آخذاً عن " تاريخ الأزمنــة " حَسب قوله:" وكانت يانوح من أشرف القُرى والمَجالس بِجِبة المنيطرة، وأهلها كثيرين الغيرة والعبادة،  فابتنـوا دير مار جرجس من الحجر الأزرق في غاية الصِنعَة والشرافة، وهو إلى يومنـا باقي، لكنه خالياً"، ثم يَعود فيقول في ما يلي من كلامـه:" إن دير مـار جرجس الأزرق كان هيكلاً رومانيـاً حوَّله الرهبان الموارنـة إلى دير على اسم مار جرجس"، والفرق واضح ما بينَ الباني والمحوِّل لبنـاءٍ موجود. غير أنه لا يعدو الحقيقة حين يقول:" ما يتميَّز به البطاركة الموارنة عن غيرهم من بطاركـة الكنائس المشرقيــة الأخرى هو كثرة تنقُّلهم وعدم إستقرارهم في أماكن مُعيَّنة".

 

ويُزكّي حقيقة إرتباط الكنيسة المارونية، أي مَرجعيتها الروحية : البطريركيـة، بالأديار ما تقوله إحدى الوثائــق الصادرة باللغة الفرنسية بعنوان :" الكنيسة المارونية من أوائلها حتى مجيء الصليبيين" إذ جاء فيها :" الكنيسـة المارونية لها ميزة خاصة وهي إنها تكوَّنت حول الأديار. ففي البدء، في طور القدّيس مارون المُتوفى حوالي سنة 435، وكــان يعيش في أفامـية على ضفاف نهر العاصي، قام دير في "بيت مارون" حول القبر الذي دُفن فيــه، فأعطى هذا الديـر اسمه للكاثوليك الموارنة بفعل ما كان له من تألّق وإشعاع". وتُتابع هذه الوثيقة قائلةً عن الموارنة :" لقد عاشوا في ما يكاد ان يكون اكتفـاءً ذاتيـاً في قرىً صغيرة على الدوام مع وجود ديرٍ في الجوار. فلا مُدن كبيرةً ولا قصور.. ولا رؤساء، بل كانوا يخضعون لسلطة الرهبان الدينية، وبطاركتهم كانوا يعيشون أيضاً حياةً مُتقشفة دون مقرّ ٍ بطريركيّ ٍ ثابت، بل كانوا يتنقَّلون غالباً في الجبل من قريةٍ إلى أخرى".

 

هذه الوثيقة توحي لنا بالتعليقات والملاحظات الآتية:

إنها تؤكد الصلة الوجودية ما بين الكنيسة المارونية والاديار، اذ لم يكن لبطاركتها من مرتكز غير الأديـار، ومـا سواها فالبيوت الخاصة والمغاور. وقولها أن لا مدن كبيرة كانت، ولا قصور ولا رؤساء، بل كانوا يخضعون إلى سلطـة الرهبان الدينية يدل على ان الرئاسة كانت لسكان الاديار. فالأديار مارست السلطة التي هي للبطريرك أصلاً، ربما بسبب بُعد البطاركة عن أماكن وجود رعاياهم في تنقُّلاتهم المختلفة، واختبائهم احياناً في امكنة نائية أو في نواحٍ قفراء حيث لا يمكن اكتشافهم ، ولا يصحّ أن نعتقد استناداً إلى كون السلطة على الشعب كانت في يد الرهبان ان البطاركــة لم يكونوا موجودين لأن الوثيقة نفسها تقول:" وبطاركتهم كانوا يعيشون ايضاً حياةً متقشفة دون مقرّ ٍ بطريركيّ ٍ ثابت".

 

إلا أن البطريرك الماروني كانت عينه دوماً على أنطاكية، وكانت أمنيته ان يظل موجوداً وَسَط قَطيعه عائشــاً في غمرة القلق. ويوحنا مارون الثاني هو الذي حقَّق هذه الرغبة ، فوافى أنطاكية حيث عَمِل على جمع الموارنـة ولكن دون ان ينجح في سعيه، فالمصاعب والأخطـار كانت من الشدَّة بحيث جعلته يَعدُل عن مشروعه ويعود ملتجئاً إلى قلب الجبل في لبنان، فاستقرَّ في منطقة جبيل، وبقيت البطريركية المارونية في هذه المنطقة من سنة 750 حتى 1440، مُتسلسلاً خلال هذه المدة عدد كبير من البطاركة.

 

 وَلَعَلَّ هذا النص هو ما شكّل الالتباس عند الأب ضو عندما قال ان البطريرك الماروني الأول هو يوحنا مارون الثاني وليس يوحنا مارون الأول، وأن أول مقرّ بطريركي ماروني في لبنان كان في يانوح. فيوحنا مارون الثاني، عندما أخفق في سعيه الذي ذهب من أجله إلى أنطاكيا، عاد إلى لبنان مُستقرّاً في نواحي العاقورة، ويانوح هي في هذه النواحي، فالتبس الأمر على الأب ضو وظَنَّ أن هذه العودة كانت المجيء الأول لبطريرك ماروني ألى لبنان، وكان هذا البطريرك هو يوحنا مارون الثاني الذي استقر في يانوح.

 

والأسباب التي جَعَلَت البطريرك يَعود من أنطاكية إلى لبنان هي التي حَدَت أيضاً بموارنة أنطاكيـة ونواحيها على تَرك مناطقهم هناك والتَدَفُق جماعاتٍ على لبنان. وكان ان لبنانيي الجبل دانوا بالمسيحية في نهاية القرن الخامس على يد بعض تلامذة القدّيس مارون وأصبحوا هم أيضاً موارنـة، فإستقبلوا إخوانهم الوافدين من نواحي أنطاكية وتابعوا معهم نشر رسالتهم.

وتفاصيل ذلك نقرأها في نشرة بعنوان:" دير مار يوحنا مارون، كفرحَي" تقول:" جـاء بعض تلاميــذ مارون، وأشهرهم إبراهيم القورشي ، من القورشية إلى جبال لبنـان ليبشّروا الوثنيين الساكنين في جُرود جبيل والجِبِّه والبترون، فحوَّلوهم إلى مسيحيين على اسم مارون،  بينما كان تلاميذه في شمالي سوريا على مقربة من أفاميـا وحول دير القدّيس مارون على الرستى قد كوَّنوا جماعاتٍ تُعرَف بشعب مارون، وجاؤوا لبنان هرباً من الاضطهاد الذي كان يلاحقهم مـن اليعاقبة أولاً ومن العرب ثانياً وسكنوا عند إخوانٍ لهم، واختاروا جبال لبنـان المنيعة مقراً لهم ليحافظوا على الإيمان بالله والحرية في عيشٍ كريم، ولما اكتملت لهم مقوِّمات "الإستقلال" انتخبوا يوحنـا مارون بطريركاً عليهم وأسَّسوا كنيسة مارونية قائمة بذاتها داخل الكنيسة الأنطاكية" وانتشر أتباع هذه الكنيسة في أديارٍ عدّة من لبنان.  

 

 

 

 

الأديار البطريركية المارونية

 

هناك تَعَدُّد للروايات  بشأن هذه الأديار، ولكنَّ هناك أديـاراً مُجْمَع على أنها كانت مقرّاتٍ بطريركية، وبعضُها طال سَكن البطاركة فيه، وكثرعددهم، وعُرفت أسماؤهم او اسماء غالبيَّتهم.

 

تنقَّل البطاركة الموارنة بين ستة مقرّات رئيسية هي:
1- دير مار يوحنّا مارون في بلدة كفرحي في البترون الذي عُرف لاحقاً بدير مار يوحنا مارون.
2- دير سيّدة يانوح في جرود منطقة جبيل، سكن فيه طوال 370 سنة حوالي 23 بطريركاً.
3- دير سيّدة إيليج في ميفوق في أعلى بلاد جبيل، أقام فيه 18 بطريركاً طوال 320 سنة.
4- دير سيّدة قنوبين في جبة بشري، سكن فيه 24 بطريركاً طوال 383 سنة.

5- دير مار شليطا مقبس في غوسطا.
6- دير سيّدة بكركي في منطقة كسروان.. أصبح منذ الربع الثاني من القرن التاسع عشر المقر البطريركي الماروني وأقام فيه حتى اليوم عشرة بطاركة.

 

هذا بالاضافة الى عِدَّة أماكن أخرى مُختلفة لفترات قصيرة نسبياً، وذلك اما لأسباب أمنية سياسية أو شخصية :

دير مار الياس لحفد.

دير سيّدة هابيل.  

دير مار قبريانوس ويوستينا-  كفيفان.

دير مار جرجس الكفر.

دير سيّدة ديرونابرحليون.

دير مار جرجس – حالات

دير مار سركيس القرن – حردين.

دير سيّدة مشموشة.

 دير مار سركيس وباخوس – ريفون.

دير مار يوسف الحصن – غوسطا.

دير مار يوحنا حراشدرعون .

دير مار جرجس – ساحل علما.       

دير سيّدة النصر، نسبيه غوسطا. 

الديمان (مقر صيفي اعتباراً من 1823).  

 

هذا بالإضافة إلى مغارة الراهب بجِوار نبع نهر العاصي الهرمل (نَذكُر هذا المقرّ إستثنائياً لأنه كان أول مقرّ إقامة للرهبان الموارنة  الذين تهجَّروا إلى لبنان بعد المجازر التي تعرّض لها الموارنة في سوريا من جراء الخلاف حول طبيعة المسيح ومشيئته، ونظراً لقيمته الرمزية للمارونية قبل ان يكون هناك بطاركة للطائفة).

 

يُلاحَظ من ذلك ان تعدُّد المراكز البطريركية لم يكن يَخضَع لقواعد مُعيَّنة، بل كانت تأتي نتيجة الظروف والأحداث الأمنية والسياسية أو لأسباب أخرى... مِمَا أوجب على عِدَّة مجامع بطريركية التطرق إلى موضوع هذه الانتقالات بحيث نقرأ ما يلي : "إن المجمع اللبناني المنعقد عام 1736 أوجب ان يكون المقرُّ البطريركي ثابتاً (وكان في ذلك الزمن دير قنّوبين)، وإنه لا يمكن نقله إلى مكانٍ آخر إلا بقرارٍ مجمعيّ للأساقفة ولسبب مشروع وقاهر جدّاً ومع السماح بذلك من الكرسيّ الرسوليّ. ومَجمَع بكركي الأول الذي انعقد سنة 1790، في دورته التاسعة، حَدَّدَ هذا المقرّ في دير سيّدة بكركي، وصُدِّق ذلك بمرسوم صدر عن المَجمَع المُقدّس المتوكل على انتشار الإيمان بتاريخ حزيران سنة 1793. وفي الرابع من ايار 1808 عقد البطريرك تيّان في دير سيّدة قنّوبين مَجمَع أساقفة حَدّدَ دير مار شلّيطا مقبس في غوسطا مقرّاً بطريركياً".

 

هذه المقرات البطريركية الآنفة الذكر تَجَسّدَت فيها الكنيسة المارونية التي هي من الكنائس التقليدية المُعتمدة التراتبية في السلطات الكنسية. وهي تَعتبِرالقديس بطرس مؤسس الكرسيّ الأنطاكيّ وأول بطريركٍ عليه، ولذلك يضيف البطاركة الموارنة اسم "بطرس" بعد اسمهم الشخصي. لكننا نفتقر كثيراً إلى المعلومات التاريخية عن البطاركة الموارنة قبل القرن الحادي عشر، أي قبل بدء الحملات الصليبية، إذ لم يكن هناك تدوين دقيق في ذلك الزمن البعيد. ثم زاد من فقدان المعلومات ضياع عدد كبير من الوثائق التي تحتويها، واحتراق قسم آخر خلال فترة الاجتياح المملوكي في أوآخر العهد الصليبي. فليس عندنا معلومات تَتَعَلق بهؤلاء البطاركة في القرون الأربعة الأولى التي تسلسلوا خلالها، ما خلا اسماءَهم، وبعض الملاحظات الجانبية التي كان البطريرك الدويهي أول مَن أوردها.. مستنداً إلى مخطوطٍ كرشونيّ عُثر عليه في كنيسة دمشق المارونية، وهو خالٍ من ذكر أصل هؤلاء البطاركة، والفترة الزمنية التي قضاها كل منهم على رأس الكرسيّ البطريركيّ، والأعمال التي قاموا بها في أثناء ولايتهم.

 

إن أقدم الوثائق المتوفرة حالياً تعود إلى زمن البطريرك يوسف الجرجسي عام 1100 مع مجيء الصليبيين، أي إلى بدايات القرن الثاني عشر. فبدءاً من هذا التاريخ يمكن وضع سِجِل عن البطريركية المارونية، أما مَن سبق من البطاركة فهناك لائحة بأسمائهم فقط، وهي اللائحة التي قلنا ان البطريرك الدويهي وجدها في دمشق. ومن الوثائق القديمة ما يشير إلى بطاركة موارنة في القرن الثامن، ولكن دون ذكر أسمائهم وأعمالهم.

 

ولَعلَّ الأب ناصر الجميّل (المطران لاحقاً) من أفضل الذين أحسنوا إيجاز تاريخ وضع "سلسلة البطاركة الموارنة" بقوله: "أجمع المؤرخون الموارنة على أن البطريرك اسطفان الدويهي (1670-1704) هو أوّل مَن وضع سِلسِلة للبطاركة الموارنة الأنطاكيين، وكل اللوائح التي وُضعت بعده يبدو واضحاً أنها استندت إلى كتاباته. ولكن من الذين وضعوا لوائح بطريركية وأدخلوا على سلسلة الدويهي بعض التعديلات لا بد من ذكر لائحة يوسف شمعون السمعاني ولائحة القس طوبيّا العنيسي بالعربية".

 

وسَبَق للمطران يوسف الدِبس أن عبّر عن نفس الموقف تقريباً عندما جعل البطريرك الدويهي أول مُنظّم لسِلسِلة البطاركة الموارنة.. ليسير على أساسها عمل العلاّمة يوسف سِمعان السِمعاني واضع نصوص المجمع اللبناني. وتمتاز رواية المطران الدبس هذه بإشارتها إلى منهج البطريرك الدويهي (1670-1704) ومراجعه في وَضعِه لسِلسِلة البطاركة الموارنة إذ قال: "روى البطريرك سمعان عواد (1742-1756)، الذي دوّن سيرة الدويهي، ان هذا البطريرك طاف بنفسه أكثر القرى الكبرى التي يسكنها الموارنة.. وقلَّب ما في كنائسها وفي منازل وجهائها من الكتب القديمة. وكانت عادة النسّاخ القدماء ان يذيّلوا ما ينسخونه من الكتب باسم بطريرك الطائفة ومطران الأبرشية، فاستعان الدويهي بهذه التعليقات في ما دوّنه بمقالته المذكورة".

 

ومع إن هناك حوالي بِضع عشرة لائحة لسِلسِلة البطاركة الموارنة فإنها تنطلق جميعها من لائحة الدويهي – السمعاني – المجمع اللبناني، وتقلّ فيها مواضع الإختلاف عمّا هي عليه في ما يسمّيه الأب الجميّل "اللوائح الثلاث التي تُعتَبر اللوائح البطريركية الأمّ". وكثيراً ما يحدّد واضعو هذه اللوائح مراجعهم.. كقول أحدهم: "إلى هنا ما أُخذ عن المقالة السمعانية بحروفها، وأما ما يأتي فهو مأخوذ عن المجمع اللبنانيّ المقدَّس".

 

وسَنذكُر في ما يلي اسماء هؤلاء البطاركة بحسب ما توفّر من سَلاسِل مُستندة إلى الدويهي والسمعاني وغيرهما، وأخذاً عن نبذة اضافية عمّن تتوفر عنهم معلومات خاصة، مُضيفين أسماء مَن توالى من البطاركة بعد ذلك.. ومجموعهم كاملاً 77 بطريركاً، مع التحفظ على الأسماء والعدد نظراً لوجود تناقضات بين المراجع المختلفة:

 

 

البطاركة الموارنة الـ77 من يوحنا مارون إلى بشارة الراعي

 

1 – يوحنا مارون 685 – 707.                                                        

2 – قورش: 707.

3 – جبرائيل.

4 – يوحنا مارون الثاني.

5 – يوحنا الدملصاوي.

6 – غريغوريوس الأول.

7 – إسطفانوس.

8 – مرقس.

9 – أوسابيوس.

10 – يوحنا الرابع.

11 – يشوع الأول.

 12 – داود.

 13 – غريغوريوس الثاني.

14 – ثاوفيلقطوس والذي يدعى حبيب.

15 – يشوع الثاني.

16 – دوميطوس.

17 – إسحق.

18 – يوحنا الخامس.
19 – سمعان..الذي يدعى شمعون الأول

20- إرميا الأول (ورد ذكره عند الدويهي، ولم يرد ذكره عند السمعاني ولم يذكره المجمع اللبناني).

21- يوحنا السادس (ورد ذكره عند الدويهي، ولم يرد ذكره عند السمعاني ولم يذكره المجمع اللبناني).

22- شمعون الثاني (ورد ذكره عند الدويهي، ولم يرد ذكره عند السمعاني ولم يذكره المجمع اللبناني).

23- شمعون الثالث (ورد ذكره عند الدويهي، ولم يرد ذكره عند السمعاني ولم يذكره المجمع اللبناني).

24– يوسف الجرجسي (1100-1120).

25– بطرس الأول (1121 – 1130).

26 – غريغوريوس الحالاتي (1130 – 1141).

27– يعقوب الراماتي (1141-1151).

28– يوحنا اللحفدي (1151 – 1154).

29- بطرس الثاني (1154-1173).

30- بطرس الثالث  (1173- 1189).

31- بطرس الرابع  ( 1189 - 1199)، وهو بطرس اللحفدي.

32– إرميا العمشيتي (1199-1230).

33– دانيال الشاماتي (1230 – 1239).

34– يوحنا بطرس الجاجي (1239-1245).

35– شمعون (1245 -1277).

36- يعقوب الثاني (1277).

37– دانيال الحدشيتي (1278-1282).

38- لوقا البنهراني (1282).

39– إرميا الدملصي (1282-1297).

40– سمعان (1297 – 1339).

41– يوحنا العاقوري (1339-1357).
42– جبرائيل (أبي خليل) (1357-1367).

43– يوحنا (1367-1404)، وكان اسمه داود.

44 – يوحنا الجاجي (1404-1445).

45– يعقوب الحدثي (1445-1468).

46– يوسف الحدثي (1468-1492).

47– سمعان الرابع الحدثي (1492-1524).

48– موسى سعاده العكاري (1524-1567).

49– مخايل الرزي (1567-1581).

50– سركيس الرزي (1582-1597).

51– يوسف الرزي (1597-1608).

52– يوحنا مخلوف الإهدني (1608-1633).

53– جرجس عميرة الإهدني (1633-1644).

54– يوسف حليب العاقوري (1644-1648).

55– يوحنا البواب الصفراوي (1648-1656(.

56– جرجس البسبعلي (1657-1670).

57– اسطفان الدويهي (1670-1704).

58– جبرائيل البلوزاني (1704-1705).

59– يعقوب عواد (1705-1733).

60– يوسف ضرغام الخازن (1733-1742).

61– سمعان عواد (1742-1756).

62– طوبيا الخازن (1756-1766).

63– يوسف اسطفان (1766-1793).

64– ميخائيل فاضل (1793-1795).

65– فيليبُّس الجميّل (1795-1796).

66– يوسف التيان (1796-1809) عام 1809 يشير إلى تاريخ استقالته.

67– يوحنا الحلو (1809-1823).

68– يوسف حبيش (1823-1845).

69- يوسف راجي الخازن (1845-1854).

70– بولس مسعد (1854-1890).

71– يوحنا الحاج (1890-1898).

72– الياس الحويك (1899-1931).

73– أنطون عريضة (1932-1955).

74– بولس المعوشي (1955-1975).

75– أنطونيوس خريش (1975-1986).

76– نصرالله صفير(1986-2011) عام 2011 يشير إلى تاريخ استقالته.

77- بشارة الراعي (2011) .

 

بعد سَرِد أسماء البطاركة السبعة والسبعين المُفترضين لوجود اختلافات وتناقضات بين المؤرخين، وقبل إيراد نبذة موجزة مِمّا توفر لدينا عن حياة كلٍّ منهم وأعماله، لا بدَّ لنا من عرض الملاحظات التالية:

 

1- لم يَذكُرَهُم المجمع اللبناني ولا السِمعاني:

إرميا الأول: البطريرك العشرون

يوحنا السادس: البطريرك الحادي والعشرون

شمعون الأول: البطريرك الثاني والعشرون

شمعون الثاني: البطريرك الثالث والعشرون

 

- بين البطريرك يوحنا اللحفدي السابع، وهو البطريرك الثامن والعشرون، وإرميا العمشيتي الثاني،  وهو البطريرك التاسع والعشرون، هناك عدد من البطاركة صرَّح الدويهي بأنه لم يهتدِ إلى أسمائهم.

 

- شمعون الثالث، البطريرك الثاني والثلاثون، ذكر الدويهي انه لم يتوصل إلى معرفة مَن خَلَفَهُ بالتدقيق.

 

- يُفهم من كلام الدويهي أنه بين يوحنا التاسع ، البطريرك السابع والثلاثين، وجبرائيل حجولا الثاني، البطريرك الثامن والثلاثين، يُحتمل وجود غيرهما من البطاركة، ولكنه لم يتوصل إلى معرفة ذلك بِوَجهٍ اكيد.

- البطريرك لوقا من بنهران لم يَرِد ذكره في أيّ من اللوائح، رغم ذكره من قِبَل البطريرك بولس مسعد وإبن القلاعي.

- بعض البطاركة يضع بعد اسمه لقب " بطرس" للدلالة على أنه خليفة البطريرك الأول على انطاكية.

- بعضهم لا يضع اسم عائلته .

- آخرون لا يعتمدون الرقم التسلسلي بعد اسمهم أو اسم شفيعهم.

- لائحة السمعاني- عواد تورد 71 بطريركاً ("المشرق"، 1968، ص 478,164) 

- لائحة العنَيّسي تذكر 69 في "سلسلة تاريخية للبطاركة الانطاكيين الموارنة" 1911.

- لائحة السمراني تذكر 68 في " لائحة البطاركة" الصادرة سنة 1971، ص 26-27.

- لائحة الأب بولس صفير تورد العدد 75، وذلك في "الفصول اللبنانية" 1980، رقم 3،  ص 102-107.

 

يوجد لائحة ثالثة غير لائحتَي الدويهي والسمعاني جَعَلت البطاركة حتى الياس الحويك مئة وواحداً، وفيها بطاركة غير لبنانيين مثل مرقس الأنطاكي، ويوحنا من حمص، ويشوع من الشام، وأثناسيوس من عكا، وسمعان من الشام، وإكليمنضوس من أنطاكيا، وواكيم من القدس، وكيرلّس من قبرص، وشمعون من أنطاكيا، ويوحنا من اللاذقية، ولكنَّ الدويهي يقول عنها انها سِلسِلة غير صحيحة.

وهذه السلسلة ذكرها صاحب "مُختصر تاريخ لبنان".. مقدِّماً إياها بقوله: "أسماء بطاركة الموارنة على الكرسيّ الانطاكي منقولةً عن مكتبة رومية حيث هي محرّرة بالايطالياني والعربي".

 

 

من أين أتى البطاركة؟

 

وبعد تِعداد أسماء هؤلاء البطاركة المُفترضين نَذكُر مسقط رأس كلٍ منهم، مع المُلاحظة بأن البطاركة الأوائل كانوا كلّهم من لبنان الشمالي ثمّ من جبل لبنان بإستثناء ثلاثة منهم كان أحدهم من بيروت، والثاني من جزّين والثالث من عين إبل في الجنوب. ونورِد تلك البلدات بترتيبها الجغرافي من الشمال إلى الجنوب:

الباردة، بسبعل، إهدن، بشري، بقوفا، حدشيت، بلوزا، حصرون، الحدث، حلتا، جاج، لحفد، رامات، شامات، دملصا، عمشيت، العاقورة، حالات، الصفرا، دلبتا، ساحل علما، غوسطا، عشقوت، ريفون، عجلتون، بقعاتة كنعان، حملايا، بكفيا، بيروت، جزين وعين إبل.