أمّا تكريس كنيسة هذا الدّير فكان في العام 1680 على يد البطريرك إسطفان الدّويهيّ (1670- 1704)، وبعد ثلاث سنوات من ذلك، سمح للرّهبان الكبّوشيّين بالإقامة في الدّير مدّة 25 سنة بموجب إذن خطّيّ منه، ولمّا أرادوا شراءه، عارضين الثّمن "ثلاث ماية قرش قداديس"، أيّ عرضوا إقامة قداديس بما يساوي قيمته الشّرائيّة من دون أن يدفعوا القيمة نقدًا، لم يوافق على ذلك وبقي الدّير للبلدة الّتي قام من أجلها.
ومثلما اشتهر موارنة ذلك الزّمن بحرارة الإيمان والتّقوى عرفوا أيضًا، في وعيهم المبكر، قيمة العلم، لذلك، عندما حضر إلى غزير، سنة 1700، ألقسّ يعقوب زوين الغزيريّ في مهمّة كلّفه بها رئيسه العامّ المطران عبداللّه قراعلي، طلب الأهالي منه أن يتوسّط لهم عند رئيسه العامّ حتّى يبعث لهم راهبًا يعلّم أولادهم. فلم ينجح القسّ يعقوب بإقناع رئيسه بهذه الفكرة، ولكنّه بقي مصرًّا على تلبية هذا الطّلب، إذ استحسنه وأدرك فائدة الاستجابة له. فالتحق بالقسّ جبرائيل حوّا الّذي كان على خلاف مع الرّئيس العامّ داخل الرّهبانيّة، آملًا تحقيق هذه الغاية بتسلّم الرّهبان للدّير وتأمين العلم لأبناء القرية. لكنّ الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة كانت في ذلك الحين تجتاز مرحلةً صعبةً، فلم تتمكّن من تولّي الدّير الّذي بقي في عهدة الآباء الكبّوشيّين حتّى سنة 1708 عندما تسلّمه الخوري الياس عويضة الغزيريّ بطلب من المشايخ الحبيشيّين بعدما توسّطوا لدى الأمير حيدر الشّهابيّ ليمنح "رهبان الكبّوشيّة" الطّابق الأرضيّ من سراي الأمراء العسّافيّين في غزير، فكان ذلك وتحوّل هذا الجزء من القصر العسّافيّ لاحقًا إلى دير على اسم القدّيس فرنسيس.
وسنة 1711 أدّت الصّراعات السّياسيّة داخل الإمارة الشّهابيّة إلى نهب غزير وهدمها وإحراقها حتّى قيل: "ندمت غزير". فاستدعي الخوري فرنسيس الصّيداويّ من دير مار عبدا هرهريّا القطّين لإصلاح الوضع، فقام بترميم الكنيسة والدّير وأضاف إليهما أقبيةً والكلار (الكرار) وبيوتًا ملاصقةً. ولكن لحسن قيام الكنيسة والدّير بمهمّتهما، كان لا بدّ من وضع الدّير في عهدة رهبانيّة منظّمة، وعليه أتّخذت الرّهبانيّة الأنطونيّة المارونيّة، النّاشئة حديثًا، على عاتقها بشخص رئيسها العامّ الأب سليمان المشمشانيّ ومن خلفه من الرّؤساء العامّين، أمر إدارتهما، وذلك بموجب صكّ رسميّ وقّعه، سنة 1712، المشايخ الحبيشيّون وأهالي غزير، وتوّجه توقيع البطريرك، في ذلك الحين، يوسف مبارك عليه، فراح الدّير وكنيسته ينتعشان من جديد.
ولكن، خلافًا للأسباب الّتي أوردناها في مطلع هذه النّبذة المتعلّقة بإنشاء الكنيسة ومن ثمّ الدّير، تذكر بعض مصادر آل حبيش، أنّ النّيّة الأساسيّة خلف قيام دير مار الياس هذا سنة 1665، كانت تخصيصه لسكن الرّاهبات المتعبّدات، ولكن ما ينفي ذلك أنّ حجج تسليمه للرّهبان الأنطونيّين أوردت وعدًا بأن "تقطع رجل كلّ النّسوان من الدّخول إلى الدّير فلا تطأ عتبته، ولا حرمة لا من غزير ولا من غيرها". وهكذا بقي الدّير مخصّصًا لسكن الرّهبان حتّى أواسط القرن الثّامن عشر، ثمّ تأسّست فيه، عام 1826، مدرسةٌ إكليريكيّةٌ خاصّةٌ بالرّهبان المبتدئين يتلقّنون فيها العلوم الدّينيّة قبل إبراز نذورهم الرّهبانيّة.
ولكن قبل ذلك، أي في شهر آب من العام 1748، كان مجلس المدبّرين الأنطونيّين قد أصدر قرارًا يقضي بتحويل الدّير الى موئل للرّاهبات الأنطونيّات المحصّنات شرط "أن يقمنَ فيه قانونًا بموجب قانوننا وفرائضنا المثبّتة من الكرسيّ الرّسوليّ (سنة 1740). ويكون الدّير المذكور تحت مناظرة الرّهبنة روحانيًّا لا غير، وليس لأحد عليه تعلّقٌ من دون السّيّد البطريرك ومطران الرّعيّة بموجب القوانين الكنايسيّة روحانيًّاً". وقد جاء هذا القرار مستندًا إلى أحكام المجمع اللّبنانيّ الصّادرة في 2 تشرين الاول 1736، وإلى المرسوم التّطبيقيّ للقاصد الرّسوليّ المطران يوسف السّمعانيّ، المشرف على أعمال المجمع، الّذي وجّهه إلى رؤساء الرّهبانيّات الثّلاث بتاريخ 15 تشرين الثّاني 1736.
وهكذا نشهد التّناقض بين التّدابير المتّخذة نفسها، وبين هذه الأخيرة والواقع الحاصل. ولكن، وعلى كلّ حال فقد أصبح الدّير، كما ذكرنا، خاصًّا بالرّاهبات المحصّنات، وعيّنت لهنّ رئيسةٌ ووكيلةٌ تهتمّان بشؤونهنّ الدّاخليّة، كما اختار لهنّ الرّئيس العامّ للأنطونيّين راهبًا يعتني بأمرهنّ من النّاحية الرّوحيّة، وآخر يشرف على رعاية الأملاك الخاصّة بالدّير توفيرًا لمعاش الرّاهبات. وقد تمّ تثبيت تحوّل الدّير من مسكن للرّهبان إلى مسكن للرّاهبات، بموجب قرار صدر عن مجمع عين شقيق (وطى الجوز) الّذي انعقد في 6 أيلول 1786، وقضى أيضًا بانضمام الرّاهبة هنديّة عجيمي إلى جماعة الرّاهبات المتوحدات في الدّير لتكون تحت تدبير المطران جبرائيل مبارك أسقف بعلبكّ لأنّ الدّير تابعٌ لأبرشيّته. فظلّ وّضع الدّير على هذا النّحو في ما تلا ذلك من الزّمن وفقًا لما تؤكّده الوثائق التّاريخيّة.
وقد أخضعت الرّاهبات المحصّنات لقوانين صارمةٍ، وفرضت عليهنّ حياةٌ تأمّليّةٌ وعبادةٌ وتقشّفٌ، وذلك بموجب فرائض مجمع انعقد من أجل الرّاهبات في 28 تشرين الثّاني 1898، والّذي ألزمهنّ أيضًا بصلوات نهاريّة وليليّة في مواعيد ثابتة خمس مرّات يوميًّا، وغيرها من الإلزامات والممنوعات. وقد ظلّ هذا القانون عماد حياتهنّ الرّهبانيّة حتّى سنة 1932 عندما خرجن إلى العمل الرّسوليّ في أوسع مجالاته، تلبيةً لحاجات المجتمع.
والرّهبان الأنطونيّون، مذ أن تسلّموا هذا الدّير، وسّعوا بناءه وأدخلوا عليه تحسينات، وجدّدوا الصّور الزّيتيّة في الكنيسة، ثمّ قاموا، في العام 1895، بعمليّة ترميم كاملة للدّير. وإلى جانب هذه الأعمال من بناء وترميم وإصلاح قاموا بتوسيع املاك الدّير، فأضيفت أملاكٌ جديدةٌ إلى ما وهبه للدّير آل حبيش عندما أوقفوه. ولكنّ ظروفًا قاهرةً طرأت لاحقًا فرضت على الرّهبانيّة الأنطونيّة التّخلّيّ عن قسم من هذه الأملاك، وذلك خلال أيّام الضّيق والعسر في الحرب العالميّة الأولى، أو بسبب قيام الرّاهبات بالعمل الرّسوليّ الّذي تطلّب إمكانات مادّيّةً كبرى لتحقيق المشاريع التّربويّة.
كما تمّ في الدّير تأسيس مدرسةٍ ابتدائيّةٍ مجّانيّةٍ، خصّصت في البداية للبنات، ثمّ ما لبثت أن أصبحت تستقبل البنين أيضًا اعتبارًا من العام 1954. واستمرّت هذه المدرسة في تأدية خدماتها بالإمكانات المتاحة لها إلى أن قرّر مجلس المدبّرات الأنطونيّات بناء مدرسة حديثة ثلاثيّة اللّغات في جوار الدّير، وقد بدأت هذه المدرسة باستقبال التّلامذة سنة 1981، ثمّ نمت حتّى أصبحت اليوم تقدّم لتلامذتها مستوىً رفيعًا من العلم مع ما يليق بهم من إتقان للتّربية الإنسانيّة والدّينيّة والوطنيّة.. وما زالت تسير بخطىً واثقة نحو المستقبل.
وقد جاءت أعمال التّرميم للدّير الّتي جرت سنة 2003 تتويجًا لمشروع المدرسة الثّانويّة الّتي تقوم بجواره. وفي 25 تشرين الثّاني سنة 2006 جرى احتفالٌ كبيرٌ بمناسبة إعلان اليوبيل الماسيّ لانطلاق العمل الرّسوليّ للرّاهبات، هذا العمل الّذي ما زال مستمرًّا ويحقّق مزيدًا من الخدمات والعطاءات.
أُدرِجَ على خارطة السياحة الدينية في العام 2024
Video: https://youtu.be/pTZSdUX1BPE?si=GWiCWMkN0YZ69ivS