دلبتا هي قرية من قُرى قَضاء كِسروان في مُحافظة جبل لبنان، يتراوح ارتفاعها ما بين 500 و1150م وتَبعُد عن العاصِمَة بيروت 29 كلم، وعن مَركَز القضاء جونية 9 كلم. تَحدُّها عرمون، القطّين والجديدة شَمالاً، رعشين شرقاً، معراب وغوسطا جنوباً، وشننعير وغزير غربًا.
يُجمِع الباحثون على أنّ اسم دلبتا هو سريانيّ تعريبه : الدّلبة، والمقول إنّ أراضيها كانت غنيّة بشجر الدّلب إلى أن اجتاحتها أمطار غزيرة عام 1862، رافقها هبوب عاصفة هوجاء اقتلعت معظمها من جذورها. ويؤكّد ذلك أنيس فريحة في كِتابه "مُعجَم أسماء المُدن والقرى اللّبنانية" أنّ أصل اسمها Dulebta الدّلبة أو Dulba، أشجار الدّلب....
من أهمّ المعالم الدّينيّة الموجودة في بلدة دلبتا دير سيّدة الحقلة للرّاهبات المتوحّدات المارونيّات. قال البطريرك اسطفان الدّويهي (1670-1704)عن هذا الدّير: "آهلًا ومعروفًا في أوائل وأواسط القرن السّادس عشر... ومشتركًا مع دير هرهريّا"، إلى أن تمّ الانفصال النّهائيّ بينهما عام 1682.
ليس من معلومات دقيقة عن تاريخ بنائه، لكنّ الوثائق القديمة تشير إلى أنّ تاريخ هذا الدّير يعود إلى ما قبل القرن السّابع عشر. فجزء من هندسة بنائه القديم، يُذكّر بفنّ العمارة الصّليبيّة، فما زالت حجارة منحوتة وفق هندسة صليبية موجودة في زاوية الجهة الغربية الجنوبية لكنيسة الدير الكبرى، إلى المرامي في أقبية الدّير، بالإضافة إلى صليب محفور على عتبة أحد أبواب القبو، متساوي الأضلاع ويعلوه هلال مقلوب نَحوَ الأسفل، وهذا الشّكل من الصّلبان كان مألوفًا لدى الغرب.
شهد الدّير منذ نشأته حياةً رهبانيّة مزدهرة، سكنه في البدء رهبان مار أنطونيوس الموارنة، فمنذ نشأتهم قبيل القرن السّادس عشر، اتّبع رهبان دير سيّدة الحقلة "قانون مار أنطونيوس" في الصّلاة والعمل والضّيافة، وذلك تجسيدًا لعيش المشورات الإنجيليّة في إطار روحانيّة النّسك الرّسوليّ.
من أبرز الوثائق العائدة لتلك الفترة، وثيقة أولى دُوّنت في 25-6-1606، يوم وفاة رئيس دير سيّدة الحقلة الخوري يوسف (يعتقد أنه من عائلة الخازن). تفيد هذه الوثيقة عن اجتماع رهبان هذا الدّير بكهنة رعايا عجلتون، دلبتا، عرمون، مصبح، ميروبا وغبالة، وتأسيس شركة روحيّة فيما بينهم، هي شركة "الخمسة قداديس" الّتي أثبتها لاحقًا، مطارنة الأبرشيّة، واستمرّت حتى أوائل القرن العشرين. وثيقة ثانية تعود إلى العام 1645، وهي صكّ تحديد الأراضي بين دلبتا وعرمون، على يد "أبو يوسف إلياس"، جَدّ عائلة ديب في دلبتا. أمّا الوثيقة الثّالثة فتعود إلى العام 1652، وهي صكّ وقفيّة "بيت برهوش" على دير سيّدة الحقلة في وطى الجوز.. وتذكر وثيقة أخرى غير مؤرّخة، يُرجّح أن يعود تاريخها الى بداية القرن السّابع عشر، أنّ أرض الدّير كانت تَخصُّ أولاد الحاج سليمان الخازن الّذين أقاموا الخوري يوسف آصاف رئيسًا على الدّير، حيث انتقل إليه مع شقيقته، وجمعوا فيه رهبانًا وراهبات...فكان ذلك في العام 1670 وحتى العام 1700، حين تحوّل الى دير مزدوج، تعيش فيه جماعتان رهبانيّتان، الأولى رجاليّة برئاسة الأباتي يوسف آصاف، رئيس ديريّ مار عبدا والحقلة، والجماعة الثّانية نسائيّة، برئاسة شقيقته الأم رفقا، ناسخة الكتب البيعيّة. وفي العام 1732 انتقلت رئاسة الدّير من كهنة آل آصاف إلى كهنة آل ديب... وفي العام 1818، وتطبيقًا لمقرّرات مجمع اللّويزة الّذي عقد في العام 1736، إنتقل رهبان سيّدة الحقلة إلى ديريّ مستيتا والعفص في دلبتا، وخُصّص الدّير للرّاهبات فقط.
بالعودة إلى الدّير، فإنّه يضمّ كنسية صغيرة قديمة العهد، كرّسها البطريرك اسطفان الدّويهي (1670-1704) في العام 1675. هي كناية عن كنيسة متواضعة، مَعقودة، ذات سوق واحد مَعَ صَحنٍ يَحتوي على حنيَّة مُكوَّرة، تتوسطها لوحة زيتيّة لسيّدة الحقلة. رُمّمت تلك الكنيسة في العام 2010، ويمكن الولوج منها إلى كنيسة الدّير الكبيرة، من خلال باب جانبيّ. يعلو المدخل الغربي للكنيسة الكبرى، كتابة سريانيّة منقوشة حيث نقرأ: شُيِّد هذا الهيكل المبارك على اسم سيِّدتنا مريم العذراء بأيام رئاسة السيَّد البطريرك مار طوبيا الخازن (1756-1766)، باعتناء القس بطرس ديب، بأيام رئاسة القس يوسف باسيل ومساعديه، وفي إسعاف كهنة ورهبان الدّير وأهل الإحسان. تكون شفاعتهم دنيا وآخرة آمين - سنة ١٧٥٥ مسيحيَّة.كما يعلو الباب أيضاً صليب بطريركيّ.
الكنيسة ذات سوق واحدة وعقود مصالبة، تزيّن حنيتها لوحة زيتيّة كبيرة، من المُرجّح أن تكون للرّسّام كنعان ديب، تتوسّطها العذراء مريم مُحاطة بالرّسل والملائكة، تُمثّل كلّ من النّياحة والصّعود والتّكليل. عن يمين المذبح لوحة للقدّيس مارون من عمل الرّسّام موسى ديب، وعن يسار المذبح لوحة للقدّيس أنطونيوس من عمل الرّسّام كنعان ديب. أمّا على الحائط الخلفيّ للكنيسة، فتوجد لوحة كبيرة من عمل الرّسّام موسى ديب، مؤرّخة عام 1771، تُجسّد حادثة إحياء طفل شيعيّ كان قد "توفّي" بينما كان برفقة والدته آتيًا من بعلبك إلى سيّدة الحقلة، لإيفاء نذرٍ في الدّير في العام ذاته. كما توجد على الحائط الشّماليّ للكنيسة لوحة بالكرشوني حيث نقرأ: "في سنة 1756م قد حضر قدس سيّدنا المطران جبرايل المحترم وكرّس هذا الهيكل على اسم القدّيسة مريم العذراء بحضور ريّس الدّير بطرس ديب الّذي بنى عمارها وبحضور كهنة ورهبان الدّير، وجمعٍ غفيرٍ، انشاالله تكون شفيعتهم دنيا وآخرة، آمين". وفي غرفة مجاورة للكنيسة، يوجد مدفن المطران بطرس (1881-1965) الّذي كان مطران القاهرة.
ذخائر
إلى يسار مذبح الوسط، مذبحٌ آخر أنيق مع بيت للقربان، تقدمة للدّير من ملكة النمسا ماريا تريزا في العام ١٧٦٧، وذلك إثر الشّفاء العجائبيّ لابنتها على يد الأب سركيس العشقوتي، أحد رهبان سيّدة الحقلة. فأثناء زيارة الأخير للنّمسا، بهدف جمع تبرّعات لشراء جرس لكنيسة ديره بدل ذلك الّذي تكسّر أثناء قرعه، صدف ان زار الملكة وصلّى على رأس ابنتها المريضة فشفيت. فبادرت الملكة إلى تقدمة المذبح وبيت القربان للدّير، وغيرهما من الهداية الثّمينة، من جرسين وشعاع القربان وكؤوس مطليّة بالذّهب والفضّة وشماعد ولوحات زيتيّة متنوّعة، إضافةً إلى ذخائر قدّيسين... ولأيّامنا هذه ما زال الحاجز الحديديّ في الكنيسة، والّذي كان يفصل الرّاهبات المحصّنات عن المؤمنين قائمًا.
ومن الآثار الطيّبة التي شَهِدَها هذا الدير، أنه عندما عُيّن الخوري يوحنّا الحاج، مطراناً على أبرشية بعلبك في العام 1861 اتّخذه مقراً لسكنه، بعد ان كُلّف من البطريرك بولس مسعد (1854-1890) بإدارة هذا الدير. بقي يهتمّ به حتى انتخابه بطريركاً في العام 1890.
وفي حديقة الدّير، يوجد جزء من منحوتة رومانيّة باللّغة اللّاتينية، تفتقد الى جزء كبير منها، تشير إلى مرور الإمبراطور ماركوس أوريليوس أنطونيوس (كركلا). وبفضل العثور على منحوتة مشابهة لها في بيروت، يمكن استعادة نصّها:
pro salute imp. caes l • septimi severi pui PERtinaciS • AUG araBICI • ADIABRNICI • P•P• Et m. AURELI • ANTONINI • CAES fILI • EIUS • ET• IULIAE • DOMNAE aUG • MATRIS • CASTRORUM • LBERORUMQUE • ET • TOTIUS DOMUS • DIVINAE • EIUS
SACRUM GENU POPULI SENTIA • MAGNIA • SAE PHARE • FLAMIniCA
Corona et folia
"Pour le salut de l'Empereur César Septime Sévère, Acharné, Auguste, l'Arabe, l'Adiabenien, Père de la Patrie et de Marc Aurèle l'Antoninien son fils et de Julia Domna Augusta, Mère des Camps et des enfants et de toute sa divine maison. Sentia Magnia Saephare, Flamine, < a donné > cette chose sacré au Génie du peuple."
ومن أبرز من تسلّم رئاسة دير سيّدة الحقلة (1781-1818) كان الأباتي موسى ديب (1730-1826)، فعرف الدّير ازدهارًا اقتصاديًّا لافتًا، وتوسّعًا في ممتلكاته فاق ما سبقه من عهود. فإلى جانب اهتماماته الكنسيّة ومهامه في الدّير، كان الأباتي موسى ديب رسّامًا بارعًا، تعلّم فنّ الرّسم على يد الرّاهب اللّبنانيّ بطرس القبرصي، الّذي كان رسّاماً مشهوراً في عصره. لوحاته انحصرت في المجالينِ الدّينيّ والكنسيّ، فرسم لوحات للعذراء مريم، ومار مارون وغيرهما من القدّيسين، بالإضافة إلى بطاركة ومطارنة منهم البطريرك مخائيل فاضل (1793-1795) مؤرّخة عام 1795، وموقّعة من الخلف باسم الخوري موسى ديب. فهو يعتبر من روّاد الرّسم اللّبنانيّ، وإن لم تكن جميع لوحاته موقّعة، لكن نسبتها إليه لا تقبل الشّكّ! ومن أشهر لوحاته، لوحة مُعجزة شفاء ابن المرأة الشّيعيّة الّتي حصلت عام 1771 المذكورة آنفًا، وتعتبر باكورة أعماله، والّتي تعتبر من أقدم اللّوحات الزّيتيّة الموقّعة في لبنان. يُذكر بأنّه كان قد لقّن فنّ الرّسم لابن أخيه الرّسّام كنعان ديب، الّذي عُيّن مناظرًا عن أوقاف دير سيّدة الحقلة، ومشغله للرّسم كان في عليةٍ بجوار الكنيسة.
توفّي الخوري موسى ديب في 3 كانون الثّاني سنة 1826 ، وقد قال عنه الخوري منصور الحتّوني في كتابه " نبذة تاريخيّة في المقاطعة الكسروانيّة": "أنّه توفّي في دير سيّدة الحقلة، وكان عاقلاً مُهابًا جليلًا وقورًا بارعًا في تصوير اليد، وما تزال صوره تُبهج النّاس وتجود بالثّناء والمدح عليه".
تَرأَس الدّير حاليًّا الأم أوليفيا ألهاشم. تتميّز حياة راهبات دير سيّدة الحقلة بالصّلاة والتّأمّل والتّنشئة الدّائمة على الرّوحانيّات، ويتوزّع نشاطهنّ بين الأشغال اليدويّة كالخياطة والتّطريز وصنع المنتجات الغذائيّة كالحلويات والمربّيات...وقد اشتهرن بصنع المرصبان Marzipan وهو نوع من أنواع الحلويات السّكّريّة، يصنع من اللّوز المطحون والسّكّر وماء زهر اللّيمون.