في العام 1959 وبعد أن تزايد عدد سكّان بلدة غزير وأصبحت الحاجَة مُلِحّة إلى إنشاء كنيسة رعائيّة جديدة، تداعَت لجنة وَقف كنيسة السيّدة الحَبشيّة إلى أخذ قرار بالمُباشرة بمَشروع البناء بَعدَ مُوافقة راعي الأبرشيّة. بوشِرَت الأعمال بِإشراف لِجنَة الوَقف الّتي ضَمَّت الأبوين أنطون الحدّاد وبطرس الطّيّاح (خادم الرعيّة) وكُلًّا من الدكتور إبراهيم باخوس، طانيوس شلالا ونصري سمعان، بعد أن كان السّيّد نقولا بو زخم قد وَهَب أرضًا لهذه الغاية. إستمرّت الأعمال طوال عَشر سنوات ونَيّف... حَيث تواصَلت الأشغال بعد تَكليف الأب إلياس الخويري خدمة الرعيّة. وقد تمَّ تدشين الكنيسة في 15 آب 1972.
يروي الأب أنطون الحدّاد في هذا الصدد في كتابه "خلال الدرب الطويل" عن المحاولات السابقة لتوسيع الكنيسة منذ زمن الأجداد، أوّلها من قبل الأمير حسن شهاب، ثمّ مع المطران يوحنّا مراد ومن بعده المنسينيور زوين الثاني، إلّا أنّها باءت جميعها بالفشل لأسباب عدّة كان آخرها الحرب العالمية الأولى. وفي سنة 1925 قام أهالي غزير بمحاولة جديدة لتوسيع الكنيسة، باءت بالفشل لأسباب عدّة أهمها فقر الأهالي بسبب جور الحرب عليهم.
ويضيف: "تشكلت لجنة جديدة سنة 1938 لتأتي الحرب العالمية الثانية فتضع حدّاً لنشاطها. وبعد الحرب العالمية الثانية تشكلت لجنة جديدة كان يرعاها المونسنيور أرسانيوس الفاخوري، نائب راعي الأبرشية، وابن غزير البار مؤلّفة من ثلاثين عضواً، وكانت كلّما اجتمعت لتتبادل الآراء، فُضَّ الإجتماع لتضارب في الآراء، ولم يتفق الأعضاء إلّا على شيء واحد، وهو أن غزير لا تستطيع تأمين المال الكافي لبناء الكنيسة. لذلك كان من الأفضل ترميم الكنيسة القديمة، وجعلها نظيفة ولائقة. ولقد خالف هذا الرأي بشدّة أحد كهنة غزير الشباب، الذي قال في عظة ألقاها في 8 أيلول 1958 في كنيسة سيّدة الأبراج: "يا للخجل، أبناؤكم من بعدكم، إذا ذكروا فيما يذكرون أن ثلاثين غزيرياً نصفهم من الميسورين على الأقل من ذوي الثراء قرروا بعد إجتماعات طالت وتكاثرت وبعد أخذ وردّ، أن يغيّروا أبواب الكنيسة القديمة، ويطلوا جدرانها بالكلس. ألِمِثلِ هذا العمل تُشكَّل لجنة من ثلاثين غزيرياً؟ إننا نريد كنيسة جديدة فخمة، ولا نريد غير ذلك.
وفي 14 كانون الأول سنة 1958 دُعي ممثلون من عائلات غزير إلى اجتماع عام عُقد في سراي البلدة، وقد انبثق عن الاجتماع لجنة مؤلفة من: الأبوين وديع الطّيّاح – أنطون ميلاد الحدّاد والسادة: الدكتور ابراهيم باخوس، طانيوس شلالا ونصري القدّوم. وقد تبرّع رجل البر والخير المرحوم نقولا أبي زخم بأرض للبناء لم يكن يصلح غيرها لهذا المشروع".
بالعودة الى مراحل بناء الكنيسة، نعود إلى ما دوّنه كاهن الرّعيّة وقتئذٍ، الخوري الرّاحل بطرس الطّيّاح (المطران لاحقاً) عن كلّ التّفاصيل منذ اللّحظة الأولى للتّخطيط حتّى يوم مغادرته غزير إلى رعيّة الولايات المتّحدة الأميركيّة في العام 1969.
فقد عمد الخوري بطرس الطّيّاح (المطران لاحقاً) على أرشفة كافة مراحل البناء بصور فوتوغرافية، كما دوّن في أوراقه التّالي: إنّ بناء كنيسة جديدة في غزير كان مزمَعًا فوق الهيكل القائم لكنيسة السّيّدة الحبشيّة وذلك بين الأعوام 1892 و 1912 ولكنّ الحرب العالميّة الأولى قضت على المشروع. لم يمنع ذلك أن يبقى حلم بناء كنيسة جديدة يراود أهل غزير، لذلك حرّك الأبوان أنطون الحدّاد وبطرس الطّيّاح هِمَمَ أبناء غزير ولجنة الوقف، الّتي تكاتفت لإنجاز مشروعٍ على مستوى البلدة. وبما أنّ الوقف لا يملك أرضًا مناسبة فكان أن تبرّع المرحوم نقولا بطرس بو زخم بقطعة أرض محاذية لكنيسة السّيّدة الحبشيّة بالإضافة إلى مبلغ من المال لبدء عمليّة الحفريّات.
عُقد الاجتماع الأوّل للّجنة في بلدة ريفون في دير مار سركيس وباخوس، بتاريخ السّابع والعشرين من شهر حزيران 1959، وفي الجلسة الأولى تقرّرت عدّة أمور أهمّها الاستحصال على إجازة بناء وتسجيل قطعة الأرض الخاصّة بالسّيّد نقولا بطرس بو زخم وتلزيم الأشغال وصبّ الإسمنت واتُّفق أن تلتزم جميع العائلات الغزيريّة بالتّبرّع لجمع المال وطبع أوراق يانصيب وحتّى السّفر إلى أميركا وإفريقيا لجمع التّبرّعات من المحسنين.
وفي التّاسع من تمّوز 1959 حضر إلى غزير المهندس باسكال بابودجيان Pascal Paboudjian وتناقش مع الدكتور باخوس والخوري بطرس الطّيّاح في خطّة البناء، وبعد أن اطّلع المهندس على العقار، قرّر هدم البيت الموجود على قطعة الأرض وهو بيتٌ يسكنه السيّد منصور ديب وعائلته. بعد المفاوضات، وافق آل ديب بالتّراضي على إخلاء البيت لتبدأ بذلك عمليّة جرف الأرض المُجَلَّلة لتصبح أرضًا مُسطّحة صالحة للحفر والبناء.
في 13 تمّوز 1959، باشرت الجرّافة بالأعمال، ثمّ بدأت اللّقاءات للاتّفاق أيضًا على التّصميم الأخير وتأمين مواد البناء وجمع الأموال... في اجتماع لاحق حصل في بيت الدّكتور باخوس، تقرّر إقامة حفلات أسواق خيريّة (كرمس) يتخلّلها بيع أوراق يانصيب على جوائز كبرى…
في الخامس عشر من شهر شباط سنة ١٩٦٠ تمّ صبّ المتر الأوّل من الإسمنت، ووضع كاهن الرّعيّة في الباطون، زجاجةً عليها صورة السّيّدة الحبشيّة، وفي داخلها ورقة دوّن عليها تاريخ البدء بالعمل إضافة إلى العبارة التّالية: "وبدأت الكنيسة تخرج من الأرض، باسم اللّه العظيم وبمعونة سيّدتنا مريم العذراء، السيّدة الحبشيّة".
عندما تلمّس أهالي غزير أنّ مشروع بناء الكنيسة أصبح حقيقة واقعيّة أمام أعينهم، وبعد أن سمعوا أصوات الجرّافات والبارود يقتلع الصّخور، وبعد أن رأوا بأمّ العين العواميد الأساسيّة تعلو، أصبحت حملة التّبرّع أسهل. للحال تشكّلت لجان من خيرة نساء وفتيات غزير اللّواتي أخذن على عاتقهنّ جمع التّبرّعات الموجبة شهريًّا على كلّ عائلة. وبعضهنّ كنّ يجبنَ القرى المجاورة والبعيدة ويطرقن أبواب المحلّات الكبرى في العاصمة أيضًا لجمع جوائز اليانصيب. وأهمّ جائزة كبرى كانت على سيّارة فولسواكن، يومئذٍ قدّمها أحد المحسنين في الاغتراب، وقد جرى السّحب مباشرةً على شاشة التّلفزيون وقد مثّل اللّجنة كلّ من الدّكتور ابراهيم باخوس والسّيّد طانيوس شلالا، وكان ذلك في صيف 1961 أثناء احتفالات عيد السّيّدة.
يُذكر أنّ الكنيسة هي بطول 46 مترًا و عَرض 20 مترًا، وعُلوّ قبَّة الجرس 34 مترًا. أمّا حِجارَتُها فأُحضرت من مَنطَقتيّ مَيروبا وشِملان. وَضَع تَصاميمها المُهندس باسكال بابودجيان، الّذي سبق أن صَمّمَ كاتدرائية مار الياس ومار غريغوريوس للأرمن الكاثوليك في ساحة الدباس ، في وسط بيروت في العام 1950، وقد اشتهر بِتصاميمه للكاتدرائيّات.
Video 1959-1972 مراحل بناء الكنيسة
Video اليوبيل الذهبي لتدشين الكنيسة
وثائقي عن الكتابات واللوحات التاريخية في بلدة غزير - الجزء الأول - الكنائس