مَحبَسِة مار يوحنّا - بنتاعِل

على الضّفّة اليُمنى لنهر بِنتاعل، ليس بعيدًا عن مَزرعة الجميّل، تقوم "مَحميّة بنتاعِل"، وهي مَزرَعَة نَموذجية مُكَوَّنة بشكلٍ أساسيّ من غابة صَنوبر مَغروسة أشجارها في أرضٍ بائرة، تبدأ مصاطبها الزّراعيّة على علوّ 520 متراً وتنحدر بشدّة حتّى 250م، وصولًا الى الوادي باتّجاه أقصى الجنوب.

 

لكانت الفائدة المِثالية مِنها أن تَمتدَّ وتَتَّسع لتَضُمّ إليها الخاصِرة المُقابلة من الوادي المُغطّاة بكاملها بِدغلٍ لا يُمكِن تقريباً النَفاذ الى داخلِه، وهو من الطِراز المُتوسطيّ، ولا يزال شِبهَ ناجٍ من أيّ تشويهٍ صَنعته يد الإنسان ما خلا طريق شُقَّت فيه....

 

وفي ثمانينات القَرن الماضي اتّجَهَت الجَمعية اللبنانية للأبحاث الجَوفية في عَملها الى إحصاء مَغاور هذه البُقعة المَحمية وجِوارها المُباشِر، وقام فريق عملها بارتياد تلك المغاور مُستطلعًا مُستكشفًا، فَما كان من ابن بنتاعل الدكتور سيمون صقر إلّا أن سهّل وبشكل ملحوظ عمل هذا الفريق.

 

وقد أسفرت استكشافات الجمعيّة عن نتائج بيّنت بأن هذه البُقعة فقيرة جداً بالمغاور، إذ لم تلحظ سوى ثلاث منها فقط جديرة بالذكر، في طليعتها "مغارة الضبع" في بنتاعل، التي نَسَجَت عنها مُخيّلة سكان المنطقة أسطورةً نُسبت إليها، تفيد بأنّها تحتوي على قاعاتٍ فسيحة مأهولة بضباعٍ مُفترِسة.

 

أمّا المغارة الثانية، فمن دون تسمية، وهي صغيرة يَنفرجِ عنها صَخر، وتَستحِق الذكر لأنها، من البعيد، يبدو مدخلها جميلًا جداً، ولكن سرعان ما يخيب ظنّك ما إن تقترب فلا تظهر أمامك إلاّ قاعة واحدة صغيرة لا فائدة منها للباحث.

 

أمّا المغارة الثّالثة فهي الصَومَعَة الصَخرية في القرية لمار يوحنّا، التي لا شَكَّ في أهميتها التاريخية والمِعمارية والفائدة المُجناة مِنها على هذا الصعيد.

 

ولنَعُد إلى المَحميّة، فهي إحدى أصغر المَحميّات اللبنانيّة، ولكنّها ذات أهميّة تَنبَع من تاريخها، كَونها من أوائل المَحميّات التي أُنشِئت في لبنان إذ تعود إلى العام 1981، ولأنها أُهديت إلى الدولة بشخص وزارة البيئة.. دليلاً على انفتاح وتطوّر الوعي الشَعبيّ بالنِسبة إلى وجوب المُحافظة على الثروات الطبيعيّة وحِمايتها، فكان عَمل أهاليها هذا مِثالاً يُقتدى به، وقد تَجاوَبت مَعهُم مناطِق أخرى، فتتالت المَحميّات في لبنان حتى أصبَح عَدَدها غير قليل.

 

والمَحميّة عِبارة عن غابة صَنوبَر تَقَع على سَفح تلالٍ شَمال شَرق جبيل، ولكنَّها تُظهِر إلى جانب الصَنوبر غِنىً في أنواع النباتات والحيوانات التي تَضُمُّها ومنها الحَشرات، والتي تُشكّل موضوعاً للدراسة من قِبَل الاختصاصيين بعِلم الحيوان والنبات.

 

فهي تَضُمّ من النبات 365 نوعاً، منها 60 نَبتَة ذات استعمالٍ طُبّي، ومن فضائها تعبر الطّيور الجوارح لتهاجر إلى مناطق دافئة. ومن مميّزاتها أيضًا أشجار الصنوبر البرّي الذي يُساهِم في تَشكيل التُربة، وفي بنية هذه التُربة وخصبِها. كما تَنتَشِر أشجار السِنديان بين الصَنوبر، فَتَزيد من تَماسُك التُربة وصُمودها لأن السنديان هو تاريخياً رمز للقوّة لصلابة خَشبِه. أمّا أشجار الصنوبر الجُوّي فَتَمتَدّ، وفقاً لما ذَكَرَه رئيس لِجنة هذه المَحميّة ريمون خوري، على مَساحة 20 هكتاراً، ومع الصَنوبَر والسِنديان هناك أيضاً أشجار العَفص والمَلّول.

 

وغطاء أرض المَحميّة حَسّاس تِجاه تغَيُّر الفُصول، يتأثّر به.. فَتنمو النباتات والأعشاب والأزهار بحسب الفصل الملائم لها، كَبَخّور مريم في الربيع، والمَردَكوش والزَعتَر في الصَّيف...

 

وعلى أثر إهداء المَحميّة للدولة، صَدَر عن وزارة البيئة قرار  رقم 25/1 تاريخ 11/11/1995 يرمي إلى إنشاء مَحميّة "بنتاعل الطبيعيّة"، وينصُّ على منع قطع وتصنيع أشجارها وشجيراتها على جميع أنواعها، وحَظر دخول المَواشي إلى أرضها، وعلى حِماية تربتها ونباتاتها ومنع إتلافها.

 

كما نصَّ على مَنِع رَفع حاصلاتِها من معادن ومياه وتراب ونبات، بِمَعنى استخراجها أو قطفها أو جمعها وأخذها، ومنع القيام بأيّ عمل يُخِلّ بتوازنها الطبيعي. وتُطبَّق عليها، حَسب مَضمون القرار، كل النُصوص القانونيّة والاتفاقات الدوليّة المُتعلّقة بحِماية البيئة والثروة الحِرجيّة والطبيعيّة الجميلة، وكذلك العُقوبات المُترتّبة على المُخالفين.

 

وبالعودة إلى البُقعة التي تَقوم فيها "الصَومعَة" التي ذَكَرناها في مُقدمة هذا البحث، توجَد بقايا كنيسة على اسم القديس يوحنّا. تلك الكنيسة التي ما زالت حَنيّتها قائمة حتى اليوم نجد بجانبها تجويفًا كان يُستعمل لجَمع مياه الأمطار.

 

وبعيداً منها بحوالي عشرة أمتار نَصِل الى المَنسك الفِعليّ، أيّ الى مقَرّ الناسِك الكائن على ارتفاع خمسة أمتار في الصَخر، حَيثُ نرى من الخارج قوساً تَحتضن مداميك على شكل مثلّث ويتوسّط وحدة البناء تلك مَنْوَر أو كوَّة صغيرة. وفي هذا الجَوف توجد ثلاث كوىً غير نافذة مَحفورة في الحائِط من الداخل، الأولى بينها، أي تلك الّتي لجهة اليمين، هي مُستطيلة ومَنقوش عليها صَليب بَسيط الشَكل، والثانية، من الجهة نفسها مع تراجع بسيط الى الوراء، هي ذات شكلٍ دائريّ، وفي عُمق الجَوف توجد الكوَّة الثالثة التي تَحجِب صليباً مُتشعّباً ذات قرنين مَحفوراً حَفراً عَميقاً. وهذه هي المَرّة الأولى في لبنان التي يُعثَر فيها على هذا النوع الخاص من الصُلبان في ملاذٍ صخريّ، فعادة ما نجد الصّليب يعلو حِجارة مَنحوتَة أو أعمِدَة تُشكِّل أجزاءً من المَباني الدينية. وشَكل هذا الصليب ذات القرنين على كل ضِلع من أضلاعِه الأربعة لم يُعرَف إلا في الكنائس المارونية، لِلدَلالة على إيمان الموارنة بالطبيعتين في السيّد المسيح. وفي هذه البُقعة الغائرة نُلاحِظ أيضاً، على الجِدران الداخلية والسَقف، آثار كُتلٍ جَصّية جَرى طَرقها بالمَطرقة وعليها يبدو أيضاً صَليب مُدلّى مَرسوم بالأحمر. وتُظَلِل هذا المكان سِنديانتان عَتيقتان.