في قرية إدِّه الواقعة في قضاء البترون تقوم كنيسة تعود إلى عهد الصليبيين، وقد بناها هؤلاء في القرن الثالث أو ربما الثاني عشر. إنّها كنيسة مار سابا الأثرية التي ما زالت قائمة حتّى أيّامنا هذه. هي الكنيسة الرئيسية في القرية التي تحوي كنائس عدّة غيرها، منها كنيسة مار ماما المبنية منذ ما قبل الصليبيين أي في القرن التاسع او العاشر. ويقول الأب يوسف شديد أن إدِّه كانت تَحوي مدرسةً لتعليم اللاهوت ومدرسةً للأولاد
تبعد هذه القرية عن العاصمة بيروت 62 كيلومتراً، وتعلو عن سطح البحر 400 متر، وقد يعني اسمها، بحسب التّفسيرات العديدة: القوية المنيعة، او المغشّاة بالضباب، كما قد يعني الجانب والجهة.
في دِراسة للباحثة راي جبر إنّ في قرية إدِّه قضاء البترون تقوم كنيسة على اسم مار سابا يعود تاريخها إلى عهد الصليبيين. فهي قد بُنِيَتْ، احتمالاً، خلال القرن الثاني عشر بمُعاونة مُعلّمي بناء غربيين كانوا موجودين في كونتية طرابلس. ذلك أن الجدران الجانبية للكنيسة مَسنودَة بدعائم تتيح ارتفاع الجناح الأوسط، وهو تصوُّرٌ جرى اعتماده في الغرب لقناطر الكاتدرائيات التي شُيِّدت في ذلك العهد. ولكنَّ الفارق بين هذه الكنائس ومثيلاتها المشيَّدة مَحلّياً في كونتية طرابلس، هو أن هذه الأخيرة كانت ضخمةً، جبّارةً وواطئة. والحنايا المشبَّكة بأقواسٍ في كنيسة مار سابا تشبه فنَّ العمارة المتجلّي في كنائس الغرب العائدة لذلك العهد.
وفي مار سابا مَرامٍ ضيّقة تُتيح للفُرسان إطلاق سِهامهم على مهاجمين مُحتَملين، من داخل الكنيسة، مِمَّا يُدلّ على الطابع الدفاعيّ للصَرح. أما الدفاع عنه روحياً فكان يؤمّنه أربعة فرسانٍ قدّيسين رُسمت صُوَرهم من الجانبَين على الجدران الداخلية باتّجاه المذبح، ولكنَّ هذه الصور تَلِفَتْ مع الزمن...
وربما كان بناء هذه الكنيسة قد حصل ببادرةٍ من أشراف الصليبيين الذين كانوا في بلادنا، مع مساهمةٍ من مسيحيي القرية لأن الكنيسة مقامة على اسم قدّيسٍ شرقيّ: مار سابا المتوفىّ سنة 532، والذي يعني اسمه "العجوز" او "الحكيم" باللغة السريانية.
وفي لمحةٍ تاريخية عن هذه الكنيسة، يروي Levon Nordiguian في كتابه “Chateaux et Eglises du Moyen Age au Liban” ، أنّ كنيسة مار سابا في إدِّه – البترون كانت جدرانها كلّها، دون شك، مغطاة بالصُوَر، لكن لم يبقَ منها اليوم سوى مقتطفات مشتَّتة، بحيثُ نُلاحِظ ضمن مَشهد رُقاد العذراء الموجود على الحائط الشماليّ أنه لم يبقَ منه سوى وجوه بعض الرسل والأساقفة وجزء من رسم المسيح يَحمِل روح أمّه والملائكة بقربه.
كما نقرأ كتابة من ثلاث كلمات هي: "يعقوب أخو الربّ". ويتميز الرسم في الكنيسة بالرقَّة والشفافية، وهي صفات غير موجودة إلا في الرسوم البيزنطية. ذلك أن فنَّ الجدرانيات في هذه الكنائس، بالرغم من أنه يتجلّى في الفترة الصليبية، إلّا أنّه كان متَّصلاً ومتأثراً بالتراث البيزنطي.
ويتابع Levon Nordiguian قائلاً أن الوجوه في هذه الكنيسة لم تَعُد مُنبسطة، بل كوَّنتها بعض الظلال الخضراء. كما تخضع هذه الوجوه إلى خطوطٍ مُنَمنَمَة تُكسِبُها طابعاً مأساوياً ودينامياً، مما يُذكّر بالنَمَط الذي كان سائداً في بيزنطية منذ النصف الثاني من القرن الثاني عشر، الذي تميَّز بخطوطه المضطربة ودينامية تأليفه وتعبيريته العميقة، وهو الأسلوب الموجود في كنيسة إدِّه، والذي له اصداء في مجموعةٍ كبيرةٍ من الرسوم البيزنطية التي تعود إلى أواخر القرن الثاني عشر. فوجوه كنيسة إدِّه لا تبتعد من حيث أدائها وقوة تعبيرها عن هذا الأسلوب الذي دَرَج آنذاك في بيزنطية، وممّا لا شك فيه أنّ الرسّام الذي صوَّرها كان على معرفة بتلك النماذج البيزنطية.
والطابع البيزنطي الملحوظ قد يكون مردُّه إلى تواصل العلاقة بين هذه البقعة، التي لم تَعُد تحت الحكم البيزنطي بل خضعت للتأثير الغربي (اللاتيني) على يد حُكامها الصليبيين، وبين الأمبراطورية المسيحية المُتَمَثِلة ببيزنطية، مِمّا جعل من النّماذج الفنّيّة امتدادًا لبعضها البعض على الرغم من البُعد السياسي والفواصل الجغرافيَّة والادارية، إذ ظلَّت بعض الفئات من مَسيحيّي المشرق على تواصلٍ مع الطّرف الآخر.
وبعد هذه النبذة عن الفنّ المعماريّ الطاغي على هندسة هذه الكنيسة وجدرانياتها لا بدَّ من إلقاء الضوء على مرحلةٍ هامَّة مرَّت بها قبل العام 2012، إذ لم يحافظ على روعتها لا جَهل الإنسان ولا الأيّام المُتعاقبة، بحيث أنّه في القرن الماضي، أقدَم القيّمون على الكنيسة على إزالة جدرانياتها من أجل طلائها من جديد، ولكنَّ لوحاتٍ قلائل من هذه الجدرانيات سَلِمَت في اللحظة الأخيرة، ورغم ذلك فإنها لم تَسلَم من طرقات الأزاميل عليها.
إنما في العام 2012 إهتمّت بتلك الكنيسة "جمعية ترميم ودراسة الجدرانيات العائدة إلى القرون الوسطى في لبنان": AREFML
L’association pour la restauration et l’étude des fresques médiévales du Liban
التي سبق ان رَمَّمت كلاً من كنيسة صيدنايا- كفرشليمان (البترون)، وكنيسة مار شربل معاد، وكنيسة سيّدة الخرايب في كفرحلدا (البترون). فأخذت على عاتقها ترميم كنيسة مار سابا في إدِّه - البترون، وذلك باستدعاء الاختصاصي الروسي بترميم المواقع الأثرية Vladimir Sarabianov لتنفيذ المشروع، وهو أستاذ في جامعة Saint-Tychon في موسكو ومعروف جداً في مجال ترميم الآثار القديمة وإعادتها إلى ما كانت عليه، وذلك بإشراف المديرية العامة للآثار، وبتمويلٍ من أحد المحسنين، وبتعاونٍ وثيق ما بين هذه الجمعية من جهة ومطرانية البترون المارونية وبلدية القرية من جهةٍ ثانية.
فجاء هذا الاختصاصيّ مع فريق عمله إلى لبنان، وعمل على إعادة إحياء صورٍ جُدرانيّاتها الرّائعة الّتي تمثّل صلب المسيح ورقاده، إلى جانب صورة للعذراء تحمل الطفل يسوع. واحتُفل بهذا التجديد لجدرانيات الكنيسة في ختام عمليَّتَيّ الترميم اللّتين قام بهما الفريق الروسيّ في العامَين 2012 و 2013.
وتقول الباحثة راي جبر أن كنيسة مار سابا هذه، سبق للبطريرك اسطفان الدويهي في عهده في القرن السابع عشر أن أشار اليها عندما استطاع ان يقرأ فيها مدوّنةً سريانية تَصِف انتصاراً أحرَزَهُ الموارنة عندما توافدوا من جبالهم لمُساعدة الصليبيين على ردّ هجومٍ شنَّه السلطان بيبرس على طرابلس في العام 1266، مما أتاح للدويهي بأن يحدّد العهد الذي يعود اليه المستوى الثاني من جدرانيات هذه الكنيسة.
ويتابع الدويهي قائلاً أن الموارنة شيَّدوا عندئذٍ عدَّة كنائس احتفالاً بانتصارهم هذا، ورسموا صوراً تخليداً له على الحائط الشمالي لكنيسة مار سابا. وهناك مقطع لا يزال مرئياً في الاطار الذي تعلوه صورة رقاد العذراء، وهو مخطوط بخطّ ٍ جميلٍ جداً بالحرف السرياني الذي يُسمّى بالخط الإسترانجيلي. ومن ذلك العهد العائد إلى ما بعد العام 1266 يمكننا ان نرى صورةً للعذراء جالسةً وحاملةً طفلها الّذي تزيّن رصيعة كلًّا من ركبتيه.
وفي كنيسة إدِّه مشهد لا يقلّ اهميةً عمّا ذكرناه، وهو صورة الصلب التي كانت، قبل عملية الترميم، لا يظهر منها سوى صورة العذراء الباكية على ابنها. أما بقَّية الوجوه فكانت مَمحُوَّة إلى حدّ يجعلها غير مرئية. فكشفت عملية الترميم عن صورة الصلب هذه التي تجلَّت بكل روعتها. فالوجوه نبيلة، ورقيقة الملامح، والظلال تبدو بوضوح، مما يشدّد على القوة التعبيرية. ولهذا المَشهَد ارتباط وثيق بالفنّ الذي كان سائداً في بيزنطية في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، لذلك نستطيع ان نَنسُب جدرانيات كنيسة إدِّه إلى الفترة المذكورة، والتي قد يعود تنفيذها إلى فنّانٍ بيزنطيّ. لكن يوجد على الحائط الجنوبي مشهد للعذراء والطفل، والى اليسار جزء من حصانٍ أبيض، وفي الزاوية العليا يد ممدودة، مما يوحي بأن هذا الحِصان هو لمار جرجس الذي تُباركه يد الله. ولهذا المشهد طابع محلّيّ واضح.. يختلف كل الاختلاف عن المشهدَين السابقَين.
وهكذا نشهد في كنيسةٍ واحدة في لبنان عدَّة أنماطٍ فنّية تختلف احياناً حتى التناقض، وهذا يدلّ على وجود مدارس فنّية مختلفة تعايشت سويةً في القرون الوسطى وربما تنافست في ما بينها.
ولا بدَّ من الإشارة، في مجال المحافظة على الآثار في لبنان، ان المُفكّر الفرنسيّ وعالِم الآثار Ernest Renan، عندما جاء بمهمةٍ إلى لبنان بإيفاد من الأمبراطور نابوليون الثالث، نقل إلى متحف اللوفر كُتلةً كانت تُستعمل عتبة للباب الغربي من الكنيسة. وهذه القطعة كانت مزدانةً بأسطوانة جناحية يمكن تحديد زمنها في العهد الهلّيني، مع نقشٍ في أعلاها يحمل مدوَّنةً مسيحية. والحفريات التي جرت في جنوب الكنيسة أظهرت إلى الضوء بقايا تُنسب إلى النموذج البيزنطي.
وتجدر الإشارة إلى أنها ليست المرة الاولى التي يأخذ فيها Renan قطعاً أثرية من لبنان، ومن ضمن ما استولى عليه من هذه الآثار:
- عَتَبَة كَنيسَة مار جِرجس الأَثَرِيّة في إِدِّه جُبَيل، وفي وَسَطِها القِرص الشَّمسيّ الّذي يَرمُز إلى إِلَه الشَّمس "رَع"، وَنَجِد عَلَى جانِبِيه جَناحّي الصَّقرِ "هُوروس" وَثَعابين...
- عمودٌ أسطوانيّ مِنَ الحَجَرِ الكِلسِيّ، مِن كَنيسَةِ مار شَربِل الرّهاوي في معاد، يَحمِلُ كِتابةً مِنْ ثَمانِيَةِ أَسْطُرٍ بِاللُّغةِ اليونانِيَّة، تَفسيرُها أَنَّ هذا النُّصُب، هُوَ تَقدِمة إِلى الإِلَه "ستراب" مِن رَجُلٍ يُدعى "تاموس فيليبُّس دابدو سيبوس"، وذَلِكَ في السَّنَةِ الثّالِثة والْعِشرين لِانْتِصارِ الأَمبراطور أَغوسطوس قَيْصَر في مَعْرَكَةِ أَكسيوم، المُوافِقَة لِلسَّنَة الثّامِنة قَبل المَسيح.
- لَوحَة صَخرِيَّة مِن مَحَلَّةِ الدُّوَير في خَراج بَلدَةِ عَين إبِل في الجنوب، نُحِتَ عَلَيها الإِلَهَين "أَبّولون" (البَعل) و "إِرْتَميسْت" (ديانا)، تتَوسَّطُهُما شَجَرَةُ نَخيلٍ.
- فُسَيفَساءٌ مَساحَتُها 120 مِتراً مُرَبَّعاً مِن كَنيسَةِ بَلْدَةِ حَناوِيَة، مُشَيَّدَةٌ في القَرنِ السّادِسِ قُربَ مَدينَةِ صور، وغيرها...
Location: https://goo.gl/maps/P73a3DZjJonbX2YH7