كنيسة مار نهرا والقديسة صوفيّا - دملصا

هي قرية من قُرى قضاء جبيل، تَرتَفِع عن سطح البحر بِمُعدّل 400 متر، وتَبعُد عن بيروت مسافة 41 كيلومتراً، ويَتمُّ الوصول إليها من جبيل عبر إدّه وكفرمَسحون. يُرَجِّح الدكتور أنيس فريحة، أن حرف الدال في أولها هو بَقية من كلمة سِريانية هي "داار" (där)، والجزء الثاني منها : "مَلصَة" هو سِريانيّ أيضاً بِمَعنى الضَيق، فيكون اسمها "دار الضيق والشِدَّة".

 

كل ما وَصَل الى زَمننا من مُخلَّفات العصور القديمة في دمَلصا كنيسة واحدة أثرية هي اليوم الكنيسة الرعائية، إذ لا يوجَد غيرها في القرية. وهي كنيسة قديمة جداً يقول عنها الدكتور كريستيان الخوري في الجزء السابع، المُخَصَّص لِقضاء جبيل، من سِلسِلتِه المَوسوعية: "العذراء مريم في لبنان" أنه من المُفترض، استناداً الى بعض الباحثين، أن تكون عائدة الى العَهد البيزنطي، نَظراً لبَعض الآثار فيها التي تَرقى الى تلك الحَقبة.

 

الكنيسة عِبارة عن سوقَين كلّ منهُما مؤلَّف من عقدَين مصالَبين، تفصل بينهما عُضادة كبيرة، وكل سوقٍ يحتوي على حَنيَّة شرقية مُكوَّرة، وتكويرتها مَفصولة عن قاعِدَتِها بإفريزٍ حَجريّ، وأمام كلّ من الحَنَّيتين مَذبَح من حَجر هو، على وجه الدقة، لوح صَخريّ يَرتكِز على قاعدة عمودٍ أثريّ من المُرجَّح أنه يعود الى العُصور البيزنطية. وفي هذه الكنيسة جُرنُ مَعمودية هو كِناية عن حَجرٍ مُجوَّف ليَستقبِل ماء العِماد، أمّا عُمرَه فيرقى الى عُهودٍ مُتطاولة في القِدَم.

 

الداخل الى الكنيسة يَرى الى يمينه لَوحةً زَيتية لمار نُهرا تَعلو المَذبح من الجِهة المذكورة، من رَسِم إبراهيم الجِرّ. وكانت وثائق جورنال فحص للعام 1900 قد أشارت الى وجود لوحتين، ولكنَّ اللوحة الثانية في الكنيسة، التي تعلو المَذبح الثاني، وهي للقديسة صوفيّا مع أولادها، من المؤكد انها ليست تلك التي أشار إليها جورنال فحص 1900 لأنها تَعود فقط الى العام 1928.

 

وعلى الجُدران الداخلية نَرى مَلامِح لرُسومٍ جِدارية قديمة حَتَّت وباخَت بِفِعل الزمن. والحِجارة على مَدخلَي الكنيسة  تَتَخلَّلها حُفَرٌ تَتَركّز فيها عِدّة صُلبان مارونية مُقرَّنة.

 

هذا بالنسبة الى ما ورد عن هذه الكنيسة لدى الدكتور كريستيان الخوري، أمّا الباحِث Levon Nordiguian   فيروي  في كتابه “Chateaux et Eglises du Moyen Age au Liban” ، إن كنيسة دمَلصا هذه مُزدَوجة، أي إنها ذات جناحين، يتمّ الدخول إليها عِبرَ بابين كائنين كِليهما في الحائط الغربيّ. كذلك هي ذات مِحرابين نُصف دائريين، ولكنَّ صَدرها مُستقيم في الخارج ومُسطَّح. وهي إحدى كنائس العَصر الوسيط التي تُغطّيها أربعة عقود قبَّةٍ بارزة الزوايا، إثنان في كل جناح من الجناحين. وهناك باب هو حالّياً مُطيَّن وبالتالي مَسدود، وكان أصلاً مَفتوحاً في الزاوية الشمالية الغربية على الحائط الشماليّ.. مُتيحاً دخول الكنيسة من جانبها الشماليّ. أمّا النافِذة الكائنة في الحائط الشماليّ قرب المحراب فيبدو إنها تعود الى زمنٍ متأخر.

 

ويُتابع  Nordiguian قائلاً إن إعمالاً ترميمية جَرَت في أوائل التِسعينات (من القرن العشرين) كَشَفت عن قِطَعٍ من الرُسوم الجِدارية ذات لونٍ أحمر أمغر، وهي عِبارة عن رَسماتٍ شبحية رديئة الصِيانة  ويَصَعُب مَعرِفة ما تُمثّله او ما تَرمُز إليه.

 

كما يَنتَصِب صليب ذات شكلٍ غير مألوف نوعاً ما.. قد يَكون له صِلة بوجود رهبانٍ حَبشيّين في هذه المنطقة في القرن الخامس عشر.

 

ومن الذين اهتمّوا أيضاً باستطلاع هذه الكنيسة الأثرية والكتابة عنها، الباحثة ندى حلو في كتابها باللغة الفرنسية: "الصور الجِدارية في كنائس لبنان القديمة". فهي تبدأ كلامَها عنها بقولها: "في طريق عَودَتِنا من قرية بحديدات يَشُوقنا ان نَتَوقَف لنرى كنيسة دملصا. فهي كنيسة مُزدوجة، أي أنها مُصَمَّمَة بِحيث تَحتَوي على جِناحين. ومِثل هذه الكنائس موجود بعددٍ كبير في لبنان، وسَبَب انتشارها في النصف الشمالي من جبل لبنان لا تَفسير له حتى اليوم. ومع ذلك فَهُناك عِدَّة فَرضيات وضعها عدد من الباحثين، إحداها ان الكنائس التي على هذا الشكل كانت مُعدَّة لإحياء الطقوس الدينية بِلُغتين، فتتمّ إقامة الخِدمة في كل جِناحٍ بلغة. والفَرَضية الثانية تميل الى اعتبار ان وظيفة أحد الجِناحين كانت إقامة الصلوات العادية فيه، بينما الجِناح التالي مُخَصَّص للجِنازات والجِنّازات. وتأتي فَرضية ثالثة تَستَنِد الى الفصل الذي كان مُعتمداً في الكنائس بين الرجال والنساء، لتقول إن أحد الجِناحين كان مُخصَّصاً للرجال والجِناح الآخر للنساء.

 

وتتابع ندى حلو قائلةً: "في كنيسة دمَلصا المؤلفة من جِناحين كُرِّس أحدهما لمار نُهرا الذي يُكرَّم خُصوصاً لقِدرَته على شِفاء العيون، أمّا الجِناح الآخر فَمُكرَّس للقديسة صوفيّا، اي الحكمة الإلهية. وتُلاحظ على الجُدران آثار باقية من رُسومٍ مُلوَّنة تَشهُد على وجود رسومٍ جِدارية في ماضي هذه الكنيسة. كذلك تَلمَح على المِحرابين بقايا لرسومٍ حمراء قلَّما هي مرئية وتمثّل نوعاً من نقوشٍ أثرية يُعتقد أنها تعود الى ما قبل التاريخ، وقد نُسبت الى الأحباش الذين يُفترض أنهم عاشوا في لبنان في العصر الوسيط.

 

والآن وقد تَكلَّمنا عن الأثر الحَجريّ في القرية، لا بدَّ من التَوقُف عند أثرها البَشريّ في الدين، والبارزان فيه هما البطريركان يوحنّا الدملصاوي في القرن الثامن  وإرميا الدملصاوي  (1282-1297).

 

الأول منهما قد جاء بعد سَلفِه الذي كان يَحمِل نَفس هذا الإسم (يوحنّا مارون الثاني) والذي كان مُترهّباً في دير مار مارون على العاصي، ويقول عنه الأباتي بطرس فهد في كتابه "بطاركة الموارنة وأساقفتهم" انه "لمّا أحسَّ بدنو أجَله أخلى الكُرسيَّ ليوحنا آخر كان أصله من قرية دملصا من أعمال جبيل".

 

أمّا البطريرك إرميا، فقد انتُخِبَ بطريركاً في دير حالات سنة 1283، على أثر اعتقال سَلفه البطريرك دانيال الحدشيتي واستشهاده. وهذا البطريرك كَتَب بِخط يده على هامِش نَسخة من إنجيل رابولا، بأن إعتلاءه السُدَّة البطريركية كان بِتدبيرٍ من أمير جبيل.. إذ قال:" طَلبني أمير جبيل والأساقفة ورؤساء الكنائس والكهنة وألقوا قُرعةً، فأصابتني وصَيَّروني بطريركاً ثم أرسلوني الى روما... "