في قضاء جبيل، وعلى علوّ ٍ يبلغ حوالي الألف مِتر عن سطح البحر، تَقَع بَلدة لِحفِد الجُبلية العَريقة، التي تَبعُد عن جبيل، قاعدة القضاء، مسافة 20 كيلومتراً، والوصول إليها يتم عبر سلوك طريق تنطلق من جبيل وتمرُّ بعمشيت وعبيدات. مَساحتها تبلغ 550 هكتاراً تقريباً، وتَحِدُّها شمالاً بلدة مَيفوق، وشرقاً جاج وسقي رِشميا، وغرباً حاقِل وهابيل، وجنوباً مِشمِش.
أمّا إسمها، حَسب اللإعتقاد السائد، فيتألَّف من مَقطعين: LEF وAD، الأول يَتحَدَّر من جَذر "لحفد" الساميّ الذي يعني اللحف، والثاني يعني القَصّ والبَتر والقَطع. وعليه يكون أصل إسم "لحفد" آرامياً: LEF-AD ويعني "لحف مقصوص" او "لحف حادّ"، وتُزكّي هذا الإفتراض الطبيعة الجغرافيّة للمنطقة التي تقوم البلدة فيها، والتي هي عِبارة عن لحفٍ مَقصوص، أي مُقتَطَع من جبلٍ صَخريّ يُعرف اليوم بـ "شير العامية"، الذي أُطلق إسم "لحفد" أولاً على المنطقة المُحاذية له، وهو يعني، حَسب بعض المُدوَّنات، " قهر عَتيق" أي القرن العتيق، والقَرن هنا هو بِمعنى الجبل، وفي اللغة العربية يصبح "جبل قاهر" أي الجبل الشامخ.
لكنَّ إسم "لِحفِد" شَمَل في ما بعد دِسْكَرَةً ثانية إنضمَّت الى المَنطقة الاساسية المُشار إليها.. وهي "غوريا" التي يَتَحدَّر إسمها من جذر GUR الساميّ الذي يُفيد السكن والاقامة، لأن GURIA تَعني البيوت والمَساكِن، فغدا إسم "لِحفِد" مُشتركاً ما بين هاتين البُقعتين.. الى أن إنضمَّت إليهما دَسكرة ثالثة إسمها "شْحِفْتا" التي تَقَع في السَفح الشَماليّ الغربيّ لتلّة مار إسطفان، حيث توجد بقايا بيوتٍ قديمة، وهذا الإسم آراميّ يعني السَفح، وقد إسْتُقَّيت منه كلمة "شَحفة" العامية التي تعني القطعة الصغيرة من الحجارة.
لكنَّ الآراء حَول مَعنى إسم "لِحفِد" مُتعدَّدة، ومِنها الرأي القائل إن الرواد الذين سَكنوها، أطلقوا تَسمياتٍ على النواحي التي تتألف منها البلدة باللغة الآرامية-السريانية، ومن دِراسة هذه التَسميات، ومُراجعة بَعض الأحداث التاريخية التي مرَّت عليها ومُعاينة الصُكوك والمُدوَّنات التي تتعلَّق بها، يُمكن الإستنتاج أنها، في البدء، كانت بالفعل مُجمَّعاً لعددٍ من الدساكر والمَناطق القديمة لكلّ ٍ منها إسم خاص.
لذلك بِوَسعِنا القول أن من الدساكر الثلاث التي ذكرناها، والتي تُشكّل المُجمَّع المُشار إليه تتألف بلدة لِحفِد اليوم، وقد طَغى عليها هذا الإسم بَعدَ قُدوم جُدود سُكانها الحاليّين إليها، ولكنَّ أقسامَها المُختلفة يَتكنّى كلٌّ منها حتى اليوم بأسماء آرامية- سريانية مثل بشوطا وعقالا وبشطحيّا وغيرها.
لكنَّ للباحث الدكتور أنيس فريحة رأياً آخر بِالنسبَة الى إسم "لِحفِد"، إذ يُرجّح أن يكون مُحرَّفاً عن "لفحد" ويَتَكوَّن من مَقطعين : المَقطع الأول حرف اللام، الذي قد يكون بقيَّةً من EL أي الله، والمَقطع الثاني "فحد" أي الخوف والهلع، فيكون معنى الإسم في هذه الحالة إمّا "الله" أو "رهبة الله". كما يَذهب الدكتور فريحة بتِحفُّظ الى أن أصل الإسم قد يكون مُشتقاً من الآرامية ويعني "الله سُرَّ وأبتهج ورضيَ".
وتَحتَوي أرض لِحفِد على كثيرٍ من الآثار، منها الحَجَرية من صِنع الطبيعة، ومنها الفينيقية والسِريانية والمسيحية، وكُلها يُنبيء عن عَراقتها في التاريخ الطبيعيّ (الحَجريّ) والبَشريّ معاً. فالشواطىء اللبنانية لم تَكُن في الماضي مُمتَدَّة الى حيث هي الآن، بل كانت مُتراجعة الى مَدىً كبير ومياه البحر تَغمُر كثيراً من الأراضي التي نَعرِفها الآن، والدليل على ذلك الأسماك المُتحجرة التي ما زلنا نَعثر عليها في أعالي جِبالنا، ومنها في لِحفِد حَلزونيات وثِمار بَحرية مُتحجرة.. تَبيّن إن هذه البلدة كانت مَغمورةً بمياه البحر قَبل ملايين السنين. كما تحَفُظ أرضَها كُتلاً بُركانية ذات شكلٍ كُرويّ تَعود الى تلك الحَقبة المُترامية البُعد.
والبقعة المُمتدَّة مِنها بين شير العامية والسِلسلة الصَخرية عِند مطِلّ مِشمِش، تَقوم على مغارةٍ جَوفية هائلة الحَجم.. إنهارت بفعل عَوامِل الطبيعة منذ عهود غارقة في القِدَم، وهناك نَهٌر جَوفيّ ما زال يَجري في قَعر ذلك الغار المُنهار.
أمّا الآثار البَشرية فَيَشهَد عليها نشاط بشريّ مُتواصل منذ إنسان العصر الحَجريّ القديم، أي عَصر إنسان الكُهوف، وهو لم يَنقطِع في العُصور اللاحِقة، وتلك خُصوصية تَتفرَّد بها هذه البقعة من الأرض. والآثار الماثِلة أمامنا تَشهَد على أقدمية وجود الإنسان هناك، فقد وُجدت بقايا لإنسان الكُهوف في مغارة تدعى "مغارة آدم" الواقعة قرب دير مار سابا. فقد عُثر فيها على عظام لإنسانٍ بالغ الضَخامة، كما كَشفت التنقيبات عن عظام ٍ بشرية. وعُثر في مغارة أخرى تُدعى شير المراح على قِطعٍ من آلات صَوّانية كالسكاكين ونحوها، كما عُثر في محيط عين سبرين على إدوات ٍحَجرية تعود الى إنسان العصر الحَجريّ القديم، وهي ما يُسمّى بالأدوات ذات الوَجهين التي تَعود الى ما قبل 200 الف سنة وصولاً الى ستّين ألف سنة من اليوم، هذا الى عظام حيوانات مُتحجرة وأدوات ظرّانية تَعود الى إنسان العُصور الحجرية الحديثة.
والشُعوب السامَّية القديمة التي إستوطنت هناك، أي الأموريون والكنعانيون والفينيقيون، نَشَطَت في التنقيب عن المَعادِن وفي الإحتطاب من الغابات، إذ كانت البُقعة مُغطاة بغاباتٍ مُتنوعة الأشجار التي منها شجر الأرز. كذلك هناك آثار دينية مسيحية في لِحفِد ، وقد عدَّد السِمعاني منها سبعة أديار وثلاث صَوامِع وثلاث عشرة كنيسة قديمة. ولمّا كان هَدَف ذِكرنا لآثار لِحفِد الدينية هو الوصول الى بيت القَصيد فيها، أي دير مار حَوشَب، فإننا سَنمرُّ في لمحةٍ على أهمَّها، لنتوقَّف من ثم عِند هذا الدير.
أول هذه الآثار دير مار سابا الذي يعود الى ما قبل القرن الثاني عشر، ولَم يبقَ مِنه سوى جزء من كنيسته، ويقول إبن القلاعي إن بعض رهبانه كانوا يعاقبة. والثاني هو دير القِلاّية أو دير المَرج، الذي كان على إسم السيّدة قديماً، وقد خَرِب مع تَمادي السنين حتى لم بيقَ منه سوى الكنيسة التي تَجَدَّد بناؤها في أواسط القرن الماضي.
وهناك أيضاً دير مار إلياس المُعَدّ في مَصافّ الأديار البطريركية لإقامة البطريرك يوحنا اللِحفِدي (1151-1154) فيه، وهو أحد الأديار اللِحفِدية الأربعة المشهورة بِسَكن الآباء القُدماء المَشهورين بالعِبادة والتقوى فيها، وهي دير مار إلياس ودير مار سمعان ودير مار إليشاع ودير السيّدة. وتأتي بَعدَ هذه الأديرة كنيسة مار إسطفانوس الرعائية التي تُشير الدلائل على أنها مَبنية على أنقاض برجٍ رومانيّ، كان مُقدَّمو لِحفِد يَسكنونَه.. ولَعَلَه كان مَعبداً في البدء.
هذا وفي لِحفِد بقايا كنائس يَعقوبية مونوفيزية، اي عائدة لأتباع عَقيدة الطبيعة الواحدة في المسيح، إحداها كنيسة على إسم "أُمّ إيل"، أي أُمُّ الله مريم، إذ أن في مَنطقة الأماميل الحُرجية بقايا أثرية تَدُلّ على وجود كنيسة قديمة هناك تَحمِل هذا الإسم مَدفونَة أنقاضها تَحت التُراب، وقد عُثِر فيها على أيقونة برونزية صغيرة بالغة القِدَم تُمثّل السيّدة العذراء، وفي ذلك تفسير لمعنى إسم "الآماميل" المحرَّف عن أُمّ إيل.
والمؤرخ الفيكونت فيليب دي طرّازي يَنقُل في كتابه "أصدق ما كان في تاريخ لبنان" عن مؤرّخي السريان المونوفيزيين إن لِحفِد كان فيها كنيسة سِريانية بهذا الإسم ضاعت آثارها. وفي هذا تأكيد على أن أهل هذه البلاد الساميّين كانوا ما زالوا يُسمّون الله "إيل"، وهي التَسمية الفينيقية للَّه كما هو إسم "يهوه" عند العِبرانيين، كما فيه دَلالة على أن كنيسة "أُمّ إيل" في لِحفِد تَعود الى عهدٍ سَحيقٍ مُمعنٍ في القِدَم، ويؤيّد كذلك نَظَرية إن أهل هذه البلاد قد إعتنقوا الدين المسيحيّ قبل الرومان.
أمّا دير مار حَوشَب الذي هو في الأساس مَدار هذا البحث، فَنَستنِد بِشأنه على دِراسة عِنوانها "لِحفِد في التاريخ" صادرة عن المؤتمر الوطني الذي نَظّمه المَجلس البلدي في لِحفِد في آب عام 2009 حَيث نقرأ ما يلي: يقع الدير شرقيًّ البلدة ويُشبِه أديرة وادي قاديشا. وهو عِبارة عن كَهف في الشير المُسمَّى شير العاميّة، ولم يبقَ منه سوى الكنيسة، وَيَتِمّ الوصول إليه صعودا" من النبع المُجاور لكنيسة مار إلياس عِبر طريق تُرابيّة تَمُرّ بمَعصَرة قديمة للعِنب.
يَرجَع تاريخ الدير الى القَرن الثاني عشر على الأقل، إذ خصّ البطريرك يوحنا اللِحفِدي (1151-1154) أحد أساقفته الأربعة وإختاره للإقامة فيه. أمّا عن سُكّانه وأحوالهم فلا وثائق تُفيدنا بشيء، وكل ما نَعلِمه أن هناك 3 صَوامع مُتعلقة به: الأولى مغارة الراهبة وتقع تحته غربا" بـ 60 مترا"، والثانية قاعة صغيرة مَبنيّة في قلب الشير فوق الدير ويتعذّر الوصول إليها، ولَعلَّ ساكنيها كانوا يَصِلون إليها من سطح الدير، أما الثالثة ففي قلب الشير وتَبعُد عن الدير 200 متر لجِهة الغرب.. ولم يبقَ منها سوى بئر مردومة.
أشار جورنال فَحص سنة 1886 الى كنيسة دير مار حَوشَب بقوله: "قديمة كائنة بقَطّين حذا شير العَميّة، لها حايط واحد من جهة واحدة وعلى إسم ماري حَوشَب". وتابع جورنال 1900 قائلا: "كنيسة مار أوسابيوس، أي مار حَوشَب، تقع تجاه كنيسة مار إلياس في الصخر، وهي عبارة عن مغارة كانت بِمثابة ديرٍ قديم". وفي العام 2008، وبإهتمام من المجلس البلدي وبتمويل من وزارة الشؤؤن الإجتماعية، تمّت إعادة تأهيل هذا الموقع الأثريّ.
Location: https://goo.gl/maps/WRiprryxUjdSUZMH8